لسنا ندري في أيّ خانة يمكن تصنيف حزمة الإجراءات الأخيرة، التي اتخذتها وزارة الشؤون الدينية لاستقبال شهر رمضان الفضيل؟ * هل هي، مجرد إجراءات تنظيمية "بريئة" لا علاقة لها بأيّ هدف سياسي أو أيّ غرض حزبي، يمكن أن يدرجها ضمن إشكالية "تسييس الدين" أو "تخريب المسجد" وتوجيه وظائفه الشرعية والدعوية، بما يجعله منبرا للسلطة، أو بوقا لحزب أو جماعة، بدل أن يكون كما هو مفترض، مكانا للجميع، ولا تكون الدعوة فيه إلا للإسلام ورسالته؟ لا .. لتخريب المسجد في مطلع الثمانينيات، كنت خطيبا متطوّعا بأحد مساجد مدينة بسكرة، وكنت رغم حماستي الزائدة في ذلك الوقت، وتهوّري أحيانا، أعتبر المسجد بمعناه الرسالي، مركزا للدعوة والتبليغ، ومكانا للتواصل الإيماني بين الناس، وتعليم العامة شؤون دينهم بالطريقة التي تنقلهم إلى مستوى أرفع مما كانوا فيه من جهل أو تفريط، عزلهم عن روح العبادة والأخلاق . وظللنا طيلة عشر سنوات، ننشط على هذا المحور النبيل، إلى أن جاءت الأحزاب الإسلامية في مطلع التسعينيات، وبدت وكأنها اختارت المساجد التي خرجت منها، مواقع للانطلاق في مواجهة النظام ومعارضته أو حتى إعلان الجهاد ضده كما وقع في أحد مساجد الأغواط. وكان من الطبيعي في مثل هذه الحالة، أن تكون خطبة الجمعة، متحزّبة من رأسها إلى قدميها، وأن يكون الإمام ناطقا رسميا باسم هذا الحزب، أو تلك الجماعة . وهو ما رفضناه بصرامة، رغم ضغوط الاستقطاب "الإسلامي" التي وصلت إلى حد التهديد بالقتل، ناهيك عن الإساءات اللفظية والإهانات الجهرية التي لحقت بأصحاب هذا الموقف، وكان على رأسهم الشيخ محفوظ نحناح - رحمه الله - الذي أهين أكثر من مرة أمام رؤوس الأشهاد. كما رفضنا كل الرؤى العلمانية اللائكية، التي حاولت أيضا في ذلك الوقت، الترويج إعلاميا لفكرة خطورة المسجد، من منطق أنه المكان الأنسب لتجذير المعارضة الدينية، وتفريخ التطرف، أو لتحضير الجزائر للانتقال إلى تجربة سياسية، لا تنتمي إلى هذا العصر كما عبّر أحدهم. وهو ما جعلنا نشعر أننا وقعنا بين المطرقة والسندان؛ مطرقة الإسلاميين الذين أرادوا تحويل المسجد إلى خلية حزبية، وساحة للمواجهة وتصفية الحسابات باسم الله، وسندان اللائكيين الذين أرادوا باسم فصل الدين عن الدولة، تحويل بيوت الله إلى معابد إغريقية أثرية، يزورها الناس وكفى . والحلّ؟ مازلنا نرفض وبشكل قاطع، أن تحزّب بيوت الله، أو أن يُسلب منها دورها الجامع، ووظيفتها التي وجدت من أجلها منذ قرون، ولذلك أيّدنا ما صدر عن وزارة الشؤون الدينية من تعليمات في هذا السياق، خصوصا ما كان يتعلق بمنع استغلال المساجد لأغراض سياسية أو حزبية، على نحو ما صدر سنة 2000 و2002 من تعليمات . ولكن، أليس من حقنا أيضا أن نتساءل: لمصحلة من يصدر وزير الشؤون الدينية تعليماته الصارمة، لتقنين نشاط المسجد في هذا الشهر الكريم، بالصورة التي تبدو تضييقا غير مبرر، أو تحاملا هو أقرب إلى البلادة منه إلى الذكاء؟ النتائج العكسية إننا لسنا ضدّ تدخل السلطة، لمنع أيّ لبس يمكن أن يقع في تصوّر وظيفة المنبر، أو نشاط بيت الله، لكن هل يمكن أن نفهم الهدف من إلزام الإمام بالقراءة على رواية ورش، والعمل بالمذهب المالكي فقط؟ ألا يدخل مثل هذا الإلزام في نطاق " الطائفية المذهبية " التي أشعلت الحروب بين الفرق الإسلامية، وحولتهم إلى قبائل متقاتلة تسودّ لها الوجوه؟ وإذا كان الإمام مالك نفسه - رضي الله عنه - قد رفض عرض الخليفة أن يجمع الناس على كتابه " الموطأ " فلماذا نحمّل الناس قسراً على الالتزام بمذهبه؟ صحيح أن بعض المتفيقهين من ذراري السلفية، مازال يتطاول على الإمام مالك ويقول إنه أخطأ السنّة، أو لم يحسن الاتباع، كما يتطاول أصحابه في المشارق والمغارب على الفقهاء الأربعة الكبار من قمم السلف وأعلام الدين، ولكن هل هذا مبرر كافٍ لإلزام الناس بمذهب فقهي واحد، وجعل المنبر لنصره دون سواه؟ ألم يؤدّ مثل هذا الإلزام إلى تمزيق صفوف المسلمين، وتقطيع كيانهم أيام ما سمي بفتنة خلق القرآن في عهد الدولة العباسية؟ ثم لماذا لم يعمل وزير الشؤون الدينية، بمذهب الإمام مالك، حين اضطرّ إلى إدخال أحد الشخصيات السياسية الأوروبية ( غير المسلمة ) إلى الجامع الكبير بالعاصمة، وهو ما لا يجيزه المالكية، ويجيزه الأحناف؟ ألم يكن المسجد في عصرالمسلمين الأول، مكانا للجميع، بمن فيهم المعتزلة وكل الفرق المغالية؟ إن تعصّب بعض السلفيين، وجمودهم على مواريث فكرية وفقهية آلت إليهم بطريقة ما، يمكن معالجته على دمامته، بكثرة التعريف والتوضيح والمناقشة والحوار المسؤول، لأن أساسه الجهل، والعجز عن استبانة الرأي الآخر وما قد يكون فيه من صواب أو خطأ، أما أن تلزم الدولة الناس بمذهب فقهي واحد، فذلك تعصّب أدهى وأمرّ، حتى وإن صاحبه نبل الهدف، وشرف القصد . إنني، لا اعتبر السيد غلام الله، كارها للّه ورسوله، كما يظن البعض، ولا أعتبر صوته من خلال تعليماته الأخيرة، من الأصوات الشاذة التي مازالت ترتفع في الجزائر كلما لاحت لها فرصة، تنفس فيها عن غليائها المكتوم، ولكن لا أبرؤه من تهمة التضييق على عباد الله، إن لم يكن تضييقا مقصودا على فئات الشباب وحركة التدين التي تتحول في شهر رمضان إلى سباق ناشط، وعمل دؤوب . وهو ما نخشى أن يؤدي تدرجا، أو طفرة إلى نتائج عكسية، لا يعلم منتهاها إلا الله . * لنتعلم من إسرائيل والله إذا كان المقصود من إجراءات غلام الله، التي تجعل الاعتكاف والتهجد تحت الرقابة الأمنية، هو التضييق على الشباب المتدين، وخنق حرارة إيمانه وعمق إخلاصه، فإن الإسرائيليين الذين يريدون الانتصار علينا أبدا، حرروا شبابهم من أي قيد، بعد أن رأوهم يهرعون إلى مواريثهم الدينية، يتشبثون بها، ويستمدون منها . فلماذا إذن، يشجع الشعور الديني هناك، ليزداد وهجة، ويسكب عليه الماء البارد هنا ليفتر أو يموت؟ أما إذا كانت تلك الإجراءات تحت أي عنوان علماني خفي، فإن اليهود، رفضوا العنوان العلماني لدولتهم، واستحبوا اسم اسرائيل ليكون، كما قال الشيخ الغزالي، رمز الولاء والانتماء والتشبث والوفاء . إن الجزائريين، هم أفقر الناس هذه الأيام، إلى التعاون والتواد والرحمة، وأكثر خطباء المساجد يقدمون بين يدي الله ورسوله أوهاما وأهواء، تغيض منها تلك المعاني، أو يغيض منها الجد والشرف، فلماذا لا تهتم وزارة الشؤون الدينية بهذا الجانب، وتسدي للناس خطباء أذكياء ينفعون أكثر مما يضرون، ويجمعون أكثر مما يفرقون بدل التضييق على عباد الله، وجعلهم يكفرون بالنظام كفرهم بالشيطان، أو يكرهون دولتهم ككرههم للعلقم . أصارحكم ياجماعة، أنني بدأت أشعر بأن هناك طبخة، مّا، يجري تحضيرها على نار ماكرة، لتثوير الشعب وإعداده لأكتوبر ثانٍ، وإلاّ في أيّ سياق يمكن أن نفهم إجراءات غلام الله التضييقية، وإجراءات منع استيراد اللحم السوداني وحرمان الشعب من رخصه؟! وأقل ما يمكن أن نفعله الآن، هو أن نقول : لا .. يا غلام الله، ونقول لكل الصيادين في الحكومة، لقد أسرفتم في اقتناص هذا الشعب حتى لأوشك على الفناء، والمقاولة القادمة لن تكون إرهابا بالتأكيد .