وقف المسار الانتخابي أنقذ الجزائر من خطر محقق أسامة بن لادن هو من كان يُعد شعارات الفيس في الخرطوم ! ديسمبر 1991: كانت جموع جبهة الإنقاذ ستجتاح البلد عبر انتخابات تشريعية نُظمت إبان انحراف الدولة والمؤسسات، وذلك عبر فرض نظام شمولي. وفي هبّة أخيرة، انتصب المجتمع الجزائري ممثلا في طلائعه الواعية: الوطنيون والجمهوريون والديمقراطيون والنقابيون والنساء والشباب، وواجه هذا الخطر بالمطالبة بوقف المسار الانتخابي الذي كان سيؤدي إلى أخطار كبيرة. ولم يتردد الجيش الشعبي الوطني، بصفته حاميا للدستور، لكي يستجيب لهذا المطلب الذي كان يعبّر عن قناعاته فأقحم نفسه بقوة في القضية. * وفي 12 جانفي، أعلن مجلس الأمن، وهو مؤسسة دستورية، وقف المسار الانتخابي. هذا القرار الذي كان له امتداد تاريخي، عصم البلاد من خطر محقق. غير أن هذا القرار الذي أسيء فهمه من طرف البعض، واستهجنه آخرون، فسح المجال أمام نزاع لانهائي، حتى في الغرب حيث كانت الأصوات القليلة المدافعة عنه تواجَه بسيل من الانتقادات اللاذعة وتكذيب غير مؤسس . وحتى رجل مثل أندري مندوز الذي لا شك في خبرته بالتجربة الجزائرية وقع ضحية هذا التشويه الإعلامي . لقد كانت طبيعة الجبهة الإسلامية للإنقاذ غير الديمقراطية معروفة قبل جانفي 1992 . وتقدم هذه الصفحات توثيقا دقيقا ومكثفا يكشف ضمن ما يكشف عن الوقائع والتصرفات التي قام بها إسلاميون عزموا على استخدام العنف بشتى أشكاله للوصول إلى مبتغاهم. ولم يكن إضراب ماي جوان 1991 ومجزرة ڤمار البشعة في شهر نوفمبر من نفس السنة سوى أعراض لسلسلة لامتناهية من الجرائم والاعتداءات على النظام العام. ولهذا كان من الواضح حينها أن استيلاء هذه الزمرة على السلطة سيؤدي إلى تفكيك الدولة الجمهورية ويرسخ حكم التطرف الدموي لأسياد الحرب. هل هو حكم طالبان في الجزائر؟ دون تحرك الجيش الوطني الشعبي والمجتمع المدني جنبا إلى جنب، لم يكن هذا المآل أمرا محتملا، وإنما مؤكدا . من الأشياء التي يُعترض بها غالبا هو أنه لو تُرك الأمر لاحترام اللعبة الديمقراطية لتجنبنا إرهابا وحشيا لم يتوقف منذ عشر سنوات عن النخر في روح وجسد هذه الأمة. وبعبارة أخرى، لكي نُجنب الجزائر محنة الإرهاب الإسلامي، كان علينا أن نتركه يتولى زمام السلطة. فباعتماد سياسة خرقاء كهذه لم يكن المصالحون ودعاة السلام يشكون بأنهم وقعوا في فخ الهمجية بصفة مزدوجة عن طريق الرضوخ لابتزازها دون التمكن أصلا من نزع سلاحها . "التراجع الخصب" الذي يقتضي الكف عن مقاومة الديكتاتورية الإسلامية بالرهان الآلي على فقدانها مصداقيتها عند ممارسة الحكم، هو مجرد نزوة مثقفين هواة تتجاذبهم الانهزامية والفلسفة الكلبية. (مذهب فلسفي أسسه أنتيسثيينيس وهو أحد تلامذة سقراط، ويقتضي مذهبهم التزهد المتشدد الذي يعكس احتقارا شديدا للمظاهر [ المترجم ]) . صحيح أن توقيف المسار الانتخابي أدى إلى تصعيد إرهابي غير مسبوق، لكنه اصطدم بعزيمة مقاومة شعبية تمكنت من كشف خداعه واضطرته إلى التقهقر . ومن غير المجدي القيام بتقدير الخسائر والأرباح في حال ما إذا ألغينا الانتخابات التشريعية في ديسمبر1991 أو لم نوقفها. لكن الشيء الذي لا يمكن تقديره يكمن فوق كل حساب، إنه مبدأ المقاومة لمواجهة برابرة القرون الوسطى وأصحاب حركات إسلامية غير منطقية حُرفت عن مصادرها واستغلت كقوة هدّامة تواجه كل تقدم وكل معلم من معالم التحرر السياسي والإنساني . الوجه الحقيقي للإسلاميين لقد مرت عشر سنوات واتضح للعيان أمام الجميع، مهما وكيفما حدث، طبيعة الإرهاب الإسلامي. ففي الجزائر تجسدت جرائم الشبكات المنبثقة عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة والجيش الإسلامي للإنقاذ في شكل خراب لا اسم له: اغتيالات طالت النخبة المثقفة في المدن وخاصة "المتغربين" المشار إليهم على أساس أنهم عملاء لحركة تهدف إلى طمس الثقافة الوطنية، عشرات المثقفين المشهورين والصحافيين الشجعان والأساتذة المتواضعين قضوا في نيران هذا الإعصار. أما فيما يخص المجازر الجماعية التي مست شريحة عريضة من الشعب، فإنها أثبتت الحقد الذي تكنه هذه الجماعات لهذا الشعب ولم يثنها شيء عن زرع بذور الخوف والاضطراب في نفسيته . واضطرت الدولة الجزائرية وقوات الأمن إلى مواجهة هذا الخطر المتجدد الذي كشف مداه وحدّته عن وجود تواطؤ خارجي. وكانت الشعارات التي أغرقت بها جبهة الإنقاذ شوارع الجزائر العاصمة تُعدُّ في الخرطوم من طرف أسامة بن لادن شخصيا. أما عن علاقة الجماعة الإسلامية المسلحة بتنظيم القاعدة، فهو الآن معروف من طرف الجميع . لكن الشيء المؤسف في الموضوع هو ذاك العزل الذي وجدت فيه الجزائر نفسها وهي فريسة للهجمات الإرهابية. وكان جزءٌ من ذلك سببه لامبالاة دول مثل الاتحاد الأوروبي التي كانت الجيرة تُوجب عليها التضامن مع الجزائر. وكانت حجة هذا الترقب هو التعاطف الذي حظي به الإسلاميون بسبب تحليل خاطئ مفاده أن الجزائر تخوض حربا أهلية سببها رغبة الجماعة الحاكمة في التشبث بالسلطة . هذه السلطة التي حالت دون فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي حصلت عليه بطريقة ديمقراطية ! كم هو سائغ أن نكتشف هذا، حيث دائما ما يطفو إلى السطح قرار جانفي 1992 القاضي بإلغاء نتائج الانتخابات التشريعية. ثم إن الاتهام الموجه إلى القيادة العليا للجيش الشعبي الوطني ينبع دائما من الخلط بين إلغاء الانتخابات، وهو إجراء يهدف إلى الحفاظ على الديمقراطية إن كانت موجودة، وبين ما يسمونه ديكتاتورية لا تحظى بأي تأييد شعبي في عيون المجتمع الدولي . وأنصف متابع دقيق (السفير الياباني في الجزائر بين عامي 1996 و2001 شيتا واتانابي) للساحة السياسية الجزائرية برده على هذه الأفكار المسبقة إذ كتب: "على العموم، وخاصة في عالم وسائل الإعلام، هناك توجه ينطلق من مبدأ أن العساكر سيئون في الأصل، وكلما يتدخل الجيش في المجال السياسي في بلد في طريق النمو يتم الإشارة إليه بالبنان. وفي حالة الجزائر، يمكنني القول إن تدخل الجيش لم يكن انقلابا بالمعنى التقليدي للكلمة. إضافة إلى ذلك، فقد رأت قيادة الجيش أنه إذا استمرت العملية الانتخابية فإن ذلك سيؤدي إلى قيام دولة إسلامية تدمر قيم الجمهورية التي بنيت عليها الجزائر. وكان أمام الجيش خياران: إقرار الانتخابات أو إلغاؤها، فاختار الحل الثاني. ويمكننا القول أيضا إن الجيش مؤسسة حكومية أصيلة، والعسكر هم من أبناء الشعب. فلا يمكن اتهام الجيش بكونه مناهضا للديمقراطية". هجمات11 سبتمبر ضد مركز التجارة العالمي فتحت أعين العالم بتسليط الضوء على ظاهرة الإرهاب الإسلامي العابرة للأوطان، وهو ما عانت منه الجزائر لعشرية كاملة ويمكن أن تتكرر الظاهرة في كل مكان إذا لم تُستخلص الدروس. وبمواجهة الإرهاب داخل حدودها ببسالة، ساهمت الجزائر بشكل ما في الحفاظ على الاستقرار والأمن في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. ومحاولة محاكمة الجزائر لأنها أوقفت المسار الانتخابي الذي كان سيقود مباشرة إلى "الأفغنة"، يعني أن ننخرط في مسار رفض العدالة التي أدى تطور الظروف الدولية إلى إدانتها مسبقا . وعلينا أن لا نخطئ. فبعد إخفاق الإسلاميين الواضح في مجال الإرهاب، هاهم يحاولون أخذ زمام المبادرة في المجال السياسي. ولا مفهوم للهجمات التي شُنت ضد خالد نزار الذي يُعتبر أحد مهندسي توقيف المسار الانتخابي سوى هذا. جذور الإرهاب في الجزائر يُحيل الإرهاب الإسلامي في الجزائر إلى جذر مزدوج : داخلي وخارجي، ولكن هذين المكونين يلتحمان إلى درجة لا يمكن الفصل فيها بينهما . على الصعيد الداخلي، كان هناك في البداية اعتراض تقليدي يستند على "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقد أعطت جمعية "القيم" إشارة على ذلك منذ عام 1964 . وكانت التعبئة المرتبطة بالجانب الأخلاقي تدين الانحلال الخلقي وتناسي التعاليم القرآنية، ثم توجهت إلى إدانة النظام القائم حينها بطريقة ضمنية، قبل أن تتخذ طابعا حاسما في النهاية . ولم يتردد الشيخ أحمد سحنون في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات في التهجم على سياسة الرئيس هواري بومدين، فالدخول في مرحلة التصنيع وخاصة الثورة الزراعية أيقظت عدوانية المحافظين الذين انضمت إليهم مجموعة من الشخصيات المنتمية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وكان نقد الاشتراكية قد سمح بظهور خلط امتد إلى بعض التسميات المرتبطة بالثورة التحريرية. وقد شكك الشيخ عبد اللطيف سلطاني في "الشهيد" لأنّ هذا الوصف لا يُطلق إلا على من مات من أجل العقيدة الإسلامية، وهو تصور حرفي يربط بين الوهابية والإسلام المُسيّس لجماعة "الإخوان المسلمين " ... وتصريح بومدين الذين أطلقه في ندوة دول العالم الإسلامي بلاهور : " نحن لا نريد أن ندخل الجنة ببطون خاوية " أثار صدمة . الحالة الجزائرية تكشف رغبة الإسلاميين في السعي لمواجهة أنظمة الدول التي ينتمون إليها. ومع مصطفى بويعلي والحركة الإسلامية المسلحة التي تأسست في عام 1982، قطع الإرهاب خطوة أخرى. وهكذا تأسست نواة ما سيسمى مستقبلا "الجيش الإسلامي للإنقاذ" و"الجماعة الإسلامية المسلحة"، وهما تنظيمان صنعا الحدث في بداية التسعينيات. وقبل الوصول إلى ذلك، كان الحراك الإسلامي يتصاعد تدريجيا عبر الخطب في المساجد والدعاية في الجامعات ثم الأحياء وعبر التظاهرات الثقافية واللجوء إلى التهديد، حيث كانت الضحايا من النساء اللاتي يرتدين اللباس الأوروبي وكذا التقدميين . حقيقة أن تردي الوضع المعيشي والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية غذّت آلة الدمار الإسلامية ولكن ذلك لا يفسر الأمر ولا يُبرّره بأي حال . وتزامن صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في سنتي 1991 و1992 مع عودة الجزائريين الأفغان، وهم الذين شكلوا القوة الضاربة للعنف الإرهابي، وقد رأيناهم يستعرضون في قلب العاصمة وكأنهم في بلد مُحتل، وهم يرتدون هندامهم الأفغاني. وعلى الإنسان أن يكون مصابا بالعمى حتى لا يربط الإرهاب الذي ضرب الجزائر على مدى عشرية كاملة بالجهاد الأفغاني. ولكنّ الأدهى أن لا يرى الإنسان أن ما أعطى لهذا الجهاد كل هذا العنف والثقة بالنصر هو المملكة العربية السعودية ودول الخليج وتهييج المخابرات الباكستانية والدعم التقني لوكالة الاستخبارات المركزية . سواء تعلق الأمر بتوقيف المسار الانتخابي أم لا، كان المشهد واضحا: المقاتلون الأفغان كانوا مبرمجين لإقامة الدولة الإسلامية مهما كانت الظروف ومهما كان الثمن. وأذكر أنني لما كنت مبعوثا خاصا للرئيس محمد بوضياف في عام 1992 تمكنت من إثارة انتباه مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، السيد أنتوني ليك، حول مآل الأفغان العرب الذين لم يعد هناك مبرر لوجودهم في باكستان وأفغانستان بما أن السوفييتيين غادروا كابول. وقيل لي حينها إن المشكلة مطروحة فعلا، ولكن الحكومة الباكستانية كانت أضعف من أن تواجه الموقف. وقد شاركتُ بصفتي وزيرا للخارجية في ندوة الدول الإسلامية عام 1993، وأقنعت عمرو موسى (مصر) وحبيب بن يحيى (تونس) بالقيام معي بخطوة مشتركة تجاه رئيس الحكومة الباكستانية للتنبيه على مسؤولية إسلام آباد في الأعمال الإرهابية واشتراط تحويل المجاهدين الأفغان إلى دولهم الأصلية .