الحلقة 25 درست خلال إقامتي بالزيتونة، وهي خمسة أعوام على أكثر من ثلاثين شيخا كل واحد منهم -كإخوانهم في الجزائر- وضع لبنة في صرح هذه الحياة العلمية والأدبية والثقافية التي أعيشها، ولكنهم -كإخوانهم في الجزائر- متفاوتون في الإفادة بسبب المادة وحسب المدة. * فالمادة قد تكون في القواعد العربية، وقد تكون في العلوم العقلية، وقد تكون غير ذلك . والمدة قد تكون سنة واحدة وقد تكون أكثر من ذلك . وأيضا فالكتابة عنهم جميعا توسع المجال، وتمدد الحبل، وتتقاضى منّا تفرغا تاما، واهتماما خاصا، ورحلة إلى تونس الشقيقة للتعميق والتوسع والتوثيق، حتى يكون العمل مرجعا في الموضوع، ومن ثمَّ فسأذكر في ومضات بعض الذين أخذت عنهم في جامع الزيتونة. أما الذين أخذت عنهم في (الخلدونية) التاريخ والجغرافية والرياضيات وغيرها فلا أتحدث عنهم في هذا الكتاب، وكذلك الذين داومت على محاضراتهم ولم أكن أتخلف عنها لأهميتها، كمحاضرات (الخلدونية) وخاصّةً محاضرات العملاق الشيخ الفاضل ابن عاشور، التي لم تفتني مدة إقامتي بالزيتونة، فإن هؤلاء سأتحدث عن بعضهم في موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله . أول من حضرت درسه في جامع الزيتونة إثر انتظامي في سلكه هو الشيخ أحمد الجريدي، وذلك في علم الصرف والاشتقاق، ما تزال صورة هذا الشيخ عالقةً بذهني لا تفارقه : نحيف الجسم، حاد البصر، في وجهه آثار الجُدَري، عمره إذ ذاك -فيما يبدو لي- يهدف إلى الخمسين سنة، ولي معه قصَّةٌ لطيفة هي السبب في تغيير اسمي من (آيت الصديق محمد الصالح) كما في بطاقتي الرسمية إلى الاسم الأدبي الذي أمضيت به أكثر من مائة كتاب وآلافا من المقالات والدراسات والأحاديث الإذاعية والتيليفزيونية، وغيرها وهو ( محمد الصالح الصديق ) ! وخلاصة هذه القصة أن الشيخ قرأ اسمي في دفتر المناداة قبل الشروع في الدرس للتعرف على الطلبة في أول يوم من أيام الدراسة، قرأه فتلعثم فيه (آت، إيتٍ، إيتّْ!!)، ثم أطبق الدفتر، وقلب بصره يمينا ويسارًا متسائلاً عن المسمى بهذا الاسم الغريب، فرفعت أصبعي قائلا: أنا يا سيدي ! فقال : أنت جزائريّ؟ قلت له : نعم . قال : ما معنى هذه اللفظة ( إيت ) ؟ فقلت له : تعني باللغة الأمازيغية بني . فمعنى ( آيت صديق ) بنو صديق ! ثم سكت قليلا وهو يحدجني بنظره الثاقب، ثم سألني - وإشراقة البسمة ترف على ثغره : ما رأيك في تغيير هذا الاسم، بحذف (ايت) وإبقاء الصدق والصلاح فنسميك بعد اليوم (محمد الصالح الصديق)، فنكون بهذا التغيير قد سهلنا قراءته والنطق به على الناس، وأردف هذا بقوله - وهو ينظر إليّ فوق نظارته - ومَن يدري ولعلك تصبح مؤلفا تؤلف الكتب، فيكون اسمك على الكتاب مختصرا ولطيفا موحيا ! فقلت له ما تراه سيدي! فقال: أنا أقوم بتغييره في الإدارة إن شاء الله. فمن تلك اللحظة أصبح إسمي: محمد الصالح الصديق، بعد أن كان: أيت صديق محمد الصالح، وكأن القدر نطق على لسان الشيخ، فأمضيت به عشرات الكتب كما تنبأ تماما. وثاني الشيوخ هو الشيخ محمد الكلبوسي، درست عليه ورقات الحطاب في الأصول. كان رزينا في كلامه وفي حركته، من رآه أول وهلة ظنّه غير تونسي لشدة سمرته. كان رحب الصدر أناقشه في قضايا أصولية شائكة ولا يضيق ولا يقلق ولا يتعجل الذهاب والانصراف كما هو الشأن إلى بعض الشيوخ . وكان إذا تحدّث رتّب حديثه ترتيبا منطقيا كأنما يلقي الدرس في الطلبة. كان يفرح لطالب يسأله، أو يناقشه. وكان يقول إن الحياة فرصة للزرع والبناء، فكل دقيقة تمضي تعد من هذه الفرصة التي يجب استغلالها، وسيحاسب عليها الإنسان في الآخرة، فإذا لم يستثمرها خسرها في دنياه وحوسب عليها في أخراه . أطلعته ذات يوم على دراسة أعددتها في تاريخ الأدب العربي لتنشر في صحيفة "صوت الطالب الزيتوني" التي كنت أكتب فيها، فاهتزّ طربا، وتنبّأ لي بمستقبل أدبي زاهر، وقال لي: إنك لهذا خلقت، فاعمل وسترى، توفي رحمه الله سنة 1983. وثالث الشيوخ هو العلامة الشيخ العربي العنابي، وهو جزائري الأصل كما تدل على ذلك نسبته إلى عنابة. درست عليه البلاغة. وأبرز ما يميّزه عن الآخرين إشراقة البسمة التي ترِفُّ دائما على وجهه، وكان يقدرني ويشجعني ويهتم بي اهتماما خاصا لما رأى فيَّ من العناية بدرسه، والهيام بالعلم بمختلف فروعه وضروبه . وكان إذا واجهته إشكالية في نص من النصوص ألقى سؤالا عنها ونظر إليّ كأنه يطرحه عليّ فأسارع بالإجابة، فيشكرني على ذلك، وربّما أفاض في الشكر وتعداد مؤهلاتي العلمية والخلقية والسلوكية. وقد يركز على موهبة فطرية شعر بها دون أن أدركها في نفسي، وقد سبّب لي كل هذا نفور بعض الطلبة وجفاءهم لي حسدا وحقدا، وكأن الشيخ أدرك هذا منهم فأراد أن يقنعهم بالحقيقة، ويبصرهم بالواقع، ويضع الحد لحسدهم إذا لم يطغ عليهم، ولم يصل بهم إلى حد العناد الأهوج والضلالة والغواية، فكلفني ذات يوم بإلقاء الدرس الذي هو بصدد إلقائه، دون إشعار سابق، وأنا كنت دائما على الأهبة الكاملة، والاستعداد التام، وكان الدرس صعبا شائكا هو (الفائدة ولازم الفائدة) في علم المعاني، فألقيته بنجاح جعل الشيخ يهتز طربا ويفيض بعبارات الشكر والتقدير على العبد الضعيف، ويقول: إن الجزائريين يقرأون، يتغربون عن وطنهم ويقرأون ألف حساب لهذه الغربة، مما جعل جميع زملائي منذ ذلك اليوم يحترمونني ويسألونني عن كل مسألة بلاغية تشكل عليهم . ولما انتهى الدرس ناداني الشيخ فشكرني على شجاعتي الأدبية، وأسلوبي اللغوي، وإحاطتي بالموضوع، وتمكني منه رغم صعوبته، وتشعبه، وإبهام بعض شواهده، وقال في نهاية حديثه كلمة طلبت منه أن أسجلها لأحتفظ بها وقد دعا إليها سياق الحديث، وها هي الكلمة كما أملاها! أراد الإمام الشيخ محمد عبده أن يكرّم رجل العلم والدين الشيخ مصطفى عبد الرازق، فبعث إليه برسالة مطولة اختتمها بقوله : "ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح.. لسقت إليك من الثناء ما يملأ عليك الفضاء.. ولكن أكتفي بالإخلاص في الدعاء أن يمتعني الله من نهايتك بما تغرسه في بدايتك، وأن يخلص للحق سرك ويقدرك على الهداية إليه... وينشط نفسك لجمع قومك عليه". - ورابع الشيوخ هو الأديب الكبير والشاعر الملهم، الأستاذ المرحوم الشيخ مختار الوزير، له دواوين شعر عديدة، وأبحاث ودراسات ومقالات في الأدب العربي، نذكر منها ما نشر بالخصوص في المجلة الزيتونية في الثلاثينيات من مسلسلات تحت هذه العناوين: (في الأدب العربي)، (العاطفة في الأدب العربي ) ، ( الخيال في الأدب العربي ) . وكان لهذا الأديب اهتمام خاص بي، لاهتمامي المتميّز بدرسه وبالأدب العربي قراءةً وكتابةً ونقدًا، وكان إذا كلّفنا بتحرير موضوع إنشائي، يستهويه الموضوع المتميز ويظل أياما يشيد به وبصاحبه، وكنت أبذل قصارى جهدي حتى يكون ما أكتبه هو الموضوع المتميز الذي يحظى باهتمام الأستاذ وتقديره. وكان زملائي يعتمدون -فيما يكتبون- على مرجع أو مرجعين في متناول أيديهم، أما أنا فقد كنت أعود إلى عشرات المراجع أحيانا وقد أكتب في موضوع نقديّ ثلاثين أو أربعين صفحة، مما جعل الأستاذ ينظر إليَّ نظرةً خاصة، مما أثار حسد بعض الزملاء، كما هو الشأن عند الشيخ العربي في البلاغة، ولكني كنت دائما أتمثل بقول الشاعر : إن يحسدوني فإني غيرُ لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قَد حُسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظا لما يجدُ أنا الذي يجدوني في صدورهم لا أرتقي منها صدرا ولا أَرِدُ ولما أصدرت كتابي الأول (أدباء التحصيل) وأنا ما زلتُ طالبا، أهديتُ له نسخةً أو بعبارة أدق وأصحّ فاجأته بنسخة من هذا الكتاب الذي هو من ثمرات جهده وجهد الأديب الكبير المرحوم محمد بوشربية -وسيأتي الحديث عنه- أخذ يتصفحه في صمت وتأمل، ثم قال لي في عبارة خافتة ولكنها قوية مُلتهبة، وهو يتفرس في وجهي، وتعابير محيّاه تشهد بالصدق على ما يكنّه لي من التقدير وما يتوقعه من مستقبل باسم خصيب : إنك نحال تعتصر الشهد، ورسَّام تصوّر بقلمك البليغ أروع الصور وأبدعها، وناقد تكشف عن العيوب من غير مُداهنة أو مواربة أو التواء، واصل جهادك، فغدك وضيء مشرق أو هذا مؤدى كلامه ! وخامس الشيوخ، الأستاذ مصطفى الڤمودي، درست عليه السيرة النبوية، أبرز مميزاته أنه معْتَدٌّ بشخصيته، محب لمادّته إلى حد الهيام، وعندما يمر بموقف من الرسول صلى الله عليه وسلم، تدمع عيناه ويواصل الدرس ولا يكفكف دمعه حتى يتجمع في لحيته. انفرد بين الأساتذة بخصلة لم نكن نرتضيها له، ولكن غُلِبَ على أمره، ولم يكن يقدر على التخلي عنها، هذه الخصلة التي لا تتلاءم وعلمه ومكانته وجلالة قدره، هي أنه ( يشم ) . كان -رحمه الله- يُنادي بأسماء الطلبة ثم يقلب بصره يمينا وشمالا، ثم يخرج من جيبه (حكة الشمة) ويضع في أنفه مقدارا منها ثم ينطلق في درسه في حيوية ونشاط وتركيز، وكنا نحن الطلبة نعتبر تعاطيه للشمة من علامات الساعة، وكنا نقول من أشراط الساعة أن يتناول أستاذ من أساتذة الزيتونة دخانا أو شمة أو خمرا، وكنا نضع هذه الأشياء كلها في مستوى واحد، لا من حيث الحرمة، ولكن من حيث أنها تحطُّ من قيمة الشيخ ومكانته، وكنا نحاول أن نجمع بين صورتين متنافرتين أو متباعدتين: صورة الڤمّودي وهو يذرف الدموع تأثرا بمواقف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصورته وهو يضع الشمة في أنفه، فتستعصي الصورتان على الجمع والاقتران .