يبدو أن ثورات الشارع الجزائري الاجتماعية، وما تبعها من ثورات سياسية في العالم العربي وإسقاطاتها اللاحقة علينا، استعجلت وصول قطار الإصلاح والتغيير إلى محطته النهائية، حيث لم يعد الإعلان عنه سوى مسألة وقت وحسب، بعدما حصل توافق وسط الطبقة السياسية، رغم تباين الآليات والطرائق المقترحة، كما تجاوز مختلف مواقع الرفض والتردد في المجتمع السياسي ودوائر في السلطة، مخافة أن تجرف لعنة الدومينو الجزائر بكل ثقلها وتجاربها وتاريخها، حيث ساهمت في توحيد الرؤية والهدف بدل رمي البلاد في دوامة التجاذب والعنف، وربما نحن في انتظار مناسبة مواتية للإعلان عنها، قد تكون زيارة الرئيس إلى ولايات الجنوب الكبير، أو افتتاحه لتظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، يوم 16 أفريل. * فالرئيس بوتفليقة، وجد نفسه أمام تحد آخر يجب خوضه والخروج منه بأقل الخسائر، أعلن للرأي العام عن نيته في الشروع في عملية التغيير منذ 23 فيفري، وأثارها في رسالته إلى مؤتمر الطلابي الحر، وأكدها مجددا في رسالته بمناسبة عيد النصر، حيث قال إن رفع حالة الطوارئ بداية للإصلاحات الشاملة، حيث شرع في استشارة واسعة للتحسس المطالب وضبط الخطوط العريضة لخريطة الطريق، وهي مهمة صعبة جدا، بالنظر إلى تباين بعض المقترحات وعامل الزمن، كما أعلن وزير الدولة الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية، عبد العزيز بلخادم، أن تعديل الدستور آت، بينما قال عضو التحالف الرئاسي، أبو جرة سلطاني، "إن عهدا جديدا سيتفتح بعد 3 أو 6 أشهر، وكأقصى تقدير سنة". * * رفض للاستثمار في الشارع وإجماع على التغيير الهادئ والواعي * والمهم في كل هذا الزخم السياسي، الذي يعيد إلى الأذهان الأجواء التي سادت قبل دستور 1989، وما تلاه من إفرازات في مختلف القطاعات، هو تقاطع المبادرات السياسية المتهاطلة من مختلف الفاعلين في الساحة، من الموالاة أو المعارضة، في أن يكون التغيير سلميا وهادئا، يعد وينفذ بوعي ونضج، يأخذ بعين الاعتبار تطلعات الشعب المشروعة المطالبة بالعيش في كرامة وحرية بكل معانيها وممارساتها، نابعة من الواقع المعيش والتجارب والأكراهات الماضية المريرة، بعيدا عن المزايدات والمناورات الحزبية. * وهو ما يظهر جليا من خلال فشل تحريك الشارع من قبل جناحي تنسيقية التغيير، وخاصة التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وزعيمه سعيد سعدي، وحتى شباب الأحياء الغاضب المطالب بالسكن والشغل رفض استغلاله من قبل التنسيقية، حين حطت رحالها ذات سبت بالمدنية، كما أن النقابات التي شلت قطاعات النشاط، رفضت تسييس مطالبها الاجتماعية وفضلت الاعتصام أمام مؤسسات الدولة، وحتى رئاسة الجمهورية. * * الجزائر لها ثوراتها ومرجعياتها * ودون أن نتجاهل دور حراك الشارع العربي المتفاعل في التعجيل بالإصلاحات ورفع سقفها، ودفن كل التسويفات والمبررات، فان كل الأطراف السياسية تؤكد أن الجزائر تختلف عن غيرها، بوضعها الاجتماعي والسياسي الأقل سوء والأكثر راحة وممارسة للديمقراطية، وبرصيدها من التجارب، بداية بثورتها العظيمة التي حددت مرجعيات ومبادىء الدولة الجزائرية، وبثوراتها المتعاقبة بعد الاستقلال التي حاولت تصحيح، أو على الأقل، التنبيه إلى الأخطاء والانحرافات، أهمها ثورة 5 أكتوبر 88، وما تبعها من أزمة سياسية وأمنية كادت تعصف بالبلاد، فمن الاستفزاز أو الاستخفاف أن يخضع راهن الجزائر ومستقبلها إلى إسقاطات احتجاجات، قيل إنها ثورات، تجهل خلفياتها وأهدافها، كما أن تعامل الرأي مع تحرك الشارع في دول عربية يبرز حجم التعطش إلى مرجعية جماعية أو ثورة يرتكز عليها لمواجهة اكراهات الحاضر وتحديات المستقبل. * * اشراك السلطة كفاعل أو مرافق لخريطة الطريق * كما أن الحراك السياسي والاجتماعي الراهن أجمع على أن تكون السلطة عاملا مهما في مرافقة هذا التغيير الجذري الهادف إلى مراجعة شاملة لنظام الحكم، وكأنه يستعجل مطلب الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الديمقراطية، الذي ظل حبيس الأدراج والأفكار، في حين ظلت الذهنيات متمترسة في الشك في الآخر وعلى كل المستويات، بما فيها الأحزاب والجمعيات التي وجدت في السلطة مشجبا متينا تعلق عليه فشلها وسلبياتها في تحقيق تطلعات المنخرطين والمتعاطفين. * * مجلس تأسيسي، ندوة وطنية، استفتاء.. لدستور جديد يغير النظام * عبد الحميد مهري، حسين آيت أحمد، أحمد بن بيتور، الأرسيدي، جاب الله، حركتا الإصلاح، والنهضة، جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، حركة مجتمع السلم، وغيرهم، هم نخبة تمثل كل التوجهات والعائلات السياسية الفاعلة في البلاد، وطنية، ديمقراطية، إسلامية، قدموا تصوراتهم لمطلب التغيير المنشود، وأجمعوا على ضرورة صياغة دستور جديد، على خلفية أن الانشغالات السياسية المطروحة أكبر من أن يحتويها مجرد تعديل للدستور، لأنها تمس صلب نظام الحكم وطبيعته وتوازنات السلطات، وترتيب أمور كانت مؤجلة إلى حين، وإعادة تشكيل وتأهيل مؤسسات الدولة، ما يقتضي اعتماد صياغة جديدة تأخذ بعين الاعتبار إحداث التغيير وروحه أيضا، وتحقيق الإجماع عليه لتحصينه من أي تهور أو أنانية في المستقبل، وهو الأمر الذي يستدعي الاحتكام إلى الشرعية * الشعبية، وهنا تبدأ المسافات في التباعد. * فبينما يقترح عبد الحميد مهري، السياسي المخضرم، الأمين الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني، الاحتكام إلى ندوة وطنية لا تلغي أحدا، ويرفع آيت أحمد مطلب المجلس التأسيسي، دون استبعادهما لدور السلطة الممثلة أساسا في رئيس الجمهورية لمرافقة التغيير، شأنهما شأن موقف حزب العمال، فان أحمد بن بيتور، رئيس الحكومة الأسبق، وعضو التحالف الوطني للتغيير، يقترح مرحلة انتقالية تجرى فيها رئاسيات وتشريعيات مسبقة، واستفتاء على الدستور، بينما تراهن أحزاب التحالف الرئاسي كلية على أداء رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، في تسيير المرحلة الانتقالية، مع اللجوء إلى استفتاء شعبي فيما يتعلق بالدستور الجديد الذي يحدد مختلف الآليات والمؤسسات المشكلة للنظام الجديد. * ومن دون شك، فان تغيير مضمون الدستور يحتاج إلى وقت كبير، والى استشارات عميقة مع مختلف الأطراف المعنية، السياسية والثقافية والقانونية المختصة في الفقه الدستوري، تتوج بالتوصل إلى صياغة جديدة تتجاوب مع المطالب المرفوعة دون الإخلال بتماسك المجتمع ومؤسسات الدولة، رغم تباين الأفكار في الكثير من القضايا، حيث يتطلب إنجاح الانتقال إلى مرحلة جديدة التزاما من الجميع، فالديمقراطية ليست نصوصا تدستر وتقنن بقدر ما هي ممارسة واعية وثقافة وحس مدني ملتزم، وهما هاجسان حقيقيان يضغطان على الطبقة السياسية عامة والسلطة خاصة، وبالتحديد على الرئيس، لأنه في الواجهة، ويتحمل مسؤولية الوصول بالسفينة إلى بر الأمان.