ماذا تقدم لنا اليوم الصور الاستثنائية التي تبثّها القنوات العربية من ميدان المعارك العربية من أجل الديمقراطية؟ صور تصنع أحاسيسنا وشعورنا ووعينا؟ كيف تقودنا نحو موقف محدد دون غيره بدون أن تُخترق بالفعل النقدي... * لأننا نأخذها كرديف للحقيقة المطلقة مادامت صورة ومرئية وليست لغة تعبيرية غامضة؟ ماذا تُظهر هذه الموجة من الصور الكثيرة التي لا يمكن حصرها وتغرقنا يوميا في حالة شعورية غريبة؟ حاكم هارب لا يعرف إلى أين يتجه؟ آخر يلقي خطابا لم يعد قادرا على إقناع أحد قبل أن يستسلم لتيار المد الشعبي. رئيس ثالث في حالة هستيريا يهدد بإبادة شعبه؟ وجه رئيس بارد ومحروق تحول بين يوم وليلة إلى شبيه للمومياء؟ رابع يضحك ملء شدقيه بعد جريمة خلفت أكثر من مائة قتيل؟ سلسلة من الجثث الممزقة، الدم الذي يسيل حتى أصبح شبيها للماء ولم تعد المشهدية مؤثرة أو مقززة من كثرة إظهارها. * الأجساد المقطعة الأوصال. الأموات الذين ما تزال على وجوههم علامات الخوف والرعب الممارس ضدهم. تصبح الصورة وسيلة ليس فقط لإظهار الحقيقة المفترضة ولكن أيضا لابتذال الجسد من كثرة إظهاره وهو يموت على المباشر. هناك انهيار كلي لقداسة الموت واختراق قاس لحميمية فعل الفناء. هذه الصور لا نراها متشكلة في مشهدية تراجيدية مثلما هو الحال في بلدان مثل أوروبا وأمريكا بالخصوص. الميت هناك يظل مستورا مهما كانت ظروف موته وملكا للعائلة التي تتلقى هذه الصورة وتريدها حميمية ومستورة على العكس من الصور التي تبث في القنوات العربية؟ من أصل 3000 ضحية من الذين سقطوا في برجي المركز التجاري لم نرَ جثة واحدة، إذ تكفي صياغة الخبر لتأدية الوظيفة الإعلامية وتبقى التفاصيل ملكا للمؤسسة العسكرية وأهل الفقيد، لأن ذلك من صيانة الضحية وكرامتها. الموت غائب كليا من المشهد الأورو أمريكي. في الحالة العربية تتحول الصورة في شكلها الأكثر قسوة إلى مساحة للصراع من أجل إثبات حقيقة غائبة تريد القناة فرضها بأي شكل من الأشكال حتى ولو كان هذا الشكل يمس بحرمة الجسد المقدس في ثقافتنا. * هذه الصورة التي تغرقنا اليوم في تفاصيل الثورات العربية لم تأت من الفراغ ولكنها تأسست عبر زمن طويل حتى أصبحت على الحالة التي نراها اليوم بشكل واضح. من كثرتها صارت لا تهزنا إلا قليلا أو ربما لا تهزنا أساسا. * هناك سلسلة من الأحداث المتواكبة أعطتها طابع الشرعية والقصد من ورائها هو الرغبة في إقناع المتلقي للصورة والمستهلك لها بجدوى ما يراه كرديف للحقيقة الغائبة. بدأت هذه الصور التي ابتذلت الجسد بقوة واخترقت قدسيته من سجن بوغريب بالعراق، حيث تمّ الكشف عن سريتها وهي في أوضاع قاسية وإذلالية، إذ أصبحت عرضة للاغتصاب نازعة عنها حجاب التخفي المتوارث دينيا وعقائديا. صور بوغريب عودت العين على تقبل الجسد العاري والمغتصب على المباشر. بطلها هذه المرة غربي اليانكي الأمريكي. نتائج محاكمات المغتصبين جاءت لاحقا لتبيّن إلى حد بعيد أن الجسد العربي المغتصب لم يكن بأهمية الجسد الأمريكي أو الأوروبي ولهذا كان من نتائج ذلك إنشاء تبريرات انتهت بإطلاق سراح الجناة. ثم توغلت الصورة في نسيج الوضع العربي باتجاه تدمير قدسية أخرى، قدسية الحاكم المرعب والمخيف على مدار نصف قرن تقريبا. صورة الرئيس صدام حسين الذي هدد بحرق الذين يعتدون على أرضه. حولته الصورة إلى أكثر من جرذ صغير ومريض يبحث عن أي منفذ له. الجسد الممشوق الذي يخترق دجلة عوما كما كانت تظهره الصور في وقت عزه أو على حصانه العربي في شكل صلاح الدين منقذ المسلمين أو العسكري الذي يتحادث مع ضباطه في ساحة المعركة وهو يشاهد الصواريخ التي كانت تبعث باتجاه الأراضي المحتلة، يتحول في لحظة واحدة إلى شخصية مأسوية وهو يخرج من مغارة بلحية كثة، ثم وهو يُلمس بالقفازات خوف العدوى من مرض مفترض أي يعني المزيد من الإذلال لهذا الجسد الذي كان قبل شهور جسدا خرافيا لا يقهر. تسقط الإيقونة التي صُنعت عبر نصف قرن لتنطفئ نهائيا. * وتأتي صورة إعدام صدام، خارج كل السنن القانونية كاشفة عن وحشية تؤصّل الصورة المكونة عن العربي الذي لا يعرف القانون. نرى صدام من خلال صورة شعبية، أي صورة موبايل، فجر يوم العيد وهو يشنق في مشهدية تراجيدية في ظل دولة؟ بدل أن تؤسس حكمها بالشكل القانوني المعهود في الدول الحضارية، فضلت الصورة الوحشية اللاقانونية ليكون التأثير أقوى؟ هل كانت صور الموبايل سرية أو صورا مخفية، مخبأة تم تسريبها؟ من الغباوة تصديق ذلك في ظل الترسانة العسكرية العراقية والأمريكية. * لا صدفة في الصورة. كل واحدة تؤدي خطابا محددا ووظيفة معينة. ثم بدأت سلسلة الصور الكاشفة عن عمق الوحشية التي بلغت أوجها مع مختطَفي القاعدة الذين تقطع رؤوسهم على المباشر، والصور القادمة من أفغانستان وتفجيرات باكستان وفلسطين عبر حرب غزة أو غيرها. قبل أن تنتقل الكاميرات الشعبية والشخصية باتجاه ما يحدث اليوم في الوطن العربي ملتقطة صورا وكأنها صور مراسلين حربيين غير مهنيين يبعثون ما تحتاجه القنوات في غياب المراسلين من الميدان الفعلي للحرب كانت أهلية أو كلاسيكية، منشئة ردة فعل لا نعرف إلا قسوتها ولكن تفاصيل الحقيقة تظل غائية، تمتلكها القناة التي تنتقيها بدقة لتبثها.