بايعها ربيع شباب العرب لحل معادلة حكم من الدرجة الثالثة حكومات الربيع العربي، المشكلة من جديد، من فلول "لقد هرمنا" لم تستلم فقط سلطة مترهلة، في دول ارتهنت معظم مقدراتها، واستبيحت جغرافيتها بالكامل، لكنها سوف تجبر على حل معادلة من الدرجة الثالثة، حتى تستجيب لسقف توقعات شعوبها، في أمة لم تعد تقرأ لكنها تشاهد، وتريد أن تستهلك الآن ما تشاهد في جنة الدجال الغربي. * انتهت سنة 2011 كما بدأت على إيقاع أحداث الربيع العربي، المتوحل في ريف بلاد الشام، المرتد على عقبه في اليمن السعيد، الملغم في أرض كنانة، الحائر في أرض عمر المختار، العالق في عروض أشعار الديمقراطية في بلد الشابي، المتردد في ما بقي من بلاد المغرب الإسلامي، الممتنع أخيرا في أرض جزيرة العرب، وقد أعدت شعوبها للعيش تحت تهديد الجار الفارسي الشيعي، واستدرجت عروشها النفطية إلى دورة جديدة من الإنفاق على التسلح من سوق الخردة، وبقايا مستودعات الحرب الباردة. ومع بداية سنة 2012 لم تعد جملة "إسقاط النظم" المستبدة سوى تفصيلا في سياق عملية أوسع وأكبر، تتجاوز حدود برنامج تفكيك وإعادة بناء الشرق الأوسط الكبير إلى تفكيك وإعادة تركيب العقل الجمعي العربي، واختطاف إدارة المجتمعات العربية من حكامها ونخبها، ومن أدوات الحكم والقيادة والسيطرة التقليدية، بعد النجاح الباهر الذي حققته وسائط الإتصال العصرية، وبداية تنشيط ناجحة لأدوات يو توب والفيس بوك وتويتر على الشبكة العالمية. لكن القادم منها أعظم وأحظر، ليس على مستقبل الأنظمة المستبدة الفاسدة، ولكن على التوازنات الكبرى داخل مجتمعات عربية فاقدة للقيادة، وقد تعرضت فيها صفوة الصفوة، من رجال الفكر وقادة الرأي، والزعامات الروحية، إلى عملية استنزاف لرصيدها من المصداقية وثقة الشعوب، قطعت عليها خط الرجعة والمراجعة، وحرمتها من فرصة إعادة التموقع، حين تكتشف الشعوب العربية أنها إنما سيقت، بمفردات الربيع العربي الموجه إلى شواطئ جغرافية سياسية واجتماعية جديدة، يكون حالها فيها كحال من خرج يطلب قرنين فعاد مصلوم الأذنين.
استباحة مفتوحة لجغرافية العقل الجمعي أحداث السنة المنصرمة لم تقتصر على توليد الخوف والهلع في أوساط الزمر العربية الحاكمة العالقة في فسادها، والتي لم تكتشف حتى الآن أنها قد فقدت السيطرة على شعوبها، قبل أن تدق ساعة ترحيلها عن السلطة، بل يفترض أن تشعر الشعوب العربية قاطبة بما يتهددها من أخطار، وقد تعلقت بأوهام استعادة السلطة المختطفة، وانتزاع مواطن صناعة القرار عبر اسقاط رؤوس النظم المستبدة، والدخول في المسارات الانتخابية. كما يفترض أن يقلق الجميع، سواء ما بقي من الأنظمة التي نجت حتى الآن من ارتدادات الربيع العربي، أو تلك التي أوصلها حراك الشارع إلى الحكم، أن يقلق الجميع من تنامي فقدان السيطرة على إدارة مجتمعاتهم، مع هذه الترسانة الهائلة من وسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي، التي لم تهدم فقط حدود الدول، بل نراها تهدم حدود معظم الولايات الاجتماعية والثقافية والروحية التقليدية، للقبائل والعشائر، والأحزاب والتنظيمات العصرية من نقابات ومنظمات ما يسمى بالمجتمع المدني، والأخطر من ذلك هدمها لحدود ولاية الآباء على أبنائهم وبناتهم، تتخطفهم اليوم المواقع الاجتماعية في ما لم تصله القنوات التلفزيونية.
تأمين جغرافية العقل من ترسانة غسل الأدمغة قبل نصف قرن، يذكر أقراني من جيل الاستقلال، كيف استطاعت جبهة التحرير الوطني، بوسائل تواصل بدائية، أن تنتزع إدارة المجتمع الجزائري المسلم من أيدي إدارة الاحتلال في زمن قياسي، رغم الفارق في الوسائل والأدوات، وأن تسقط مفهوم قابلية الشعوب للاستعمار، لتشحذ قابلية الشعوب للانخراط في مسار التحرر والانعتاق، لأن المؤسسات التقليدية، القائدة للمجتمع، ظلت سليمة محمية من الاختراق طيلة 130 سنة من الاحتلال، قادت المقاومة الجماعية الثقافية والاجتماعية لمجمل مفردات الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وعزلت مجتمع المعمرين، في ما يشبه الغيطوهات، إلى أن استأصلته ثورة التحرير. ولن يكون بوسعنا كتابة التاريخ الحقيقي لثورة التحرير والمقاومة المتواصلة للشعب الجزائري، والوقوف على ما فيها من إبداع، ما لم نكتب صفحات مقاومته الثقافية والدينية والاجتماعية، التي حرمت المحتل الفرنسي من فرصة الدمج والتطبيع، وأبقت المجتمع المسلم على جهوزية كاملة للدخول في معركة طرد المحتل، واستئصال مجتمع المعمرين، وما لم نحتفل بالدور الرائد الذي قامت به تلك المؤسسات التقليدية في حماية المجتمع المسلم من انتقال الاستعمار من احتلال الجغرافية، إلى احتلال العقل الجمعي للمجتمع المسلم. على ضوء هذه الخلفية التاريخية لمقاومة الشعب الجزائري، والتي لها أكثر من نظير في مجتمعات عربية تعرضت للغزو والاحتلال، وقاومت احتلال عقلها الجمعي بمفردات القوة الناعمة للمحتل أكثر مما قاومت مظاهر قوته الصلبة، يحسن بنا أن نصرف اليوم استشرافنا لما هو أخطر من إعادة احتلال جغرافية العالم العربي بأدوات القوة الصلبة، كما حصل في العراق، وما هو أخطر من مشروع تفكيك وإعادة تشكيل ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، وأن نلتفت في وقت مبكر إلى هذا الاختطاف الموصوف، والقرصنة المفضوحة لإدارة مجتمعاتنا وشعوبنا عبر وسائل التواصل العصرية من جهة، واختطاف واستقطاب الصفوة العالمة، وقادة الرأي، والزعامات الروحية، وتجييرها لخدمة مسارات منتجة للوهم، يخشى أن تنتهي بإنتاج حالة من الإحباط الجماعي لشعوبنا.
ثورة شباب تبايع مخلفات "لقد هرمنا" لنسلم جدلا بالدور الرائد المتفق عليه للشباب العربي في ما حصل من حراك، ونقبل بفرضية الحراك العفوي لشريحة من الشباب العربي المتعلم، المنفتح على مفردات وأدوات العالم الحديث، بما لم يعد يسمح له بتحمل أنظمة مستبدة، وحكومات فاشلة فاسدة، فنجح في ما عجزت عنه النخب السياسية التقليدية الليبرالية والإسلامية، كان قد لخص في مشهد كاريكاتوري، سوقه الإعلام المهيمن، في شخص ذالك الكهل التونسي وهو يردد عبارة "لقد هرمنا". وكان يفترض أن يفضي حراك الربيع العربي إلى تثمين دور الشباب العربي، لينال سهمه من المشاركة في السلطة، بعد أن أسقطت الرؤوس النافقة، وكان يفترض أن تستبعد الشعوب الثائرة النخبة التي قالت أو تقول عنها "لقد هرمنا" أو على الأقل كان يفترض أن يتوارى كهولها وشيوخها عن الواجهة، وتبادر إلى تشبيب طواقمها المرشحة للحكم. لكن شيئا من ذلك لم يحصل، فقد استبدل الربيع العربي نخبة تقليدية فاسدة من الكهول والمسنين، بنخبة من الكهول والمسنين، قد لا نطمئن عليهم مما تضمره السلطة من قوة لا محدودة على الإفساد.
نخب مستقطبة لإدارة شعوب مختطفة وحتى مع إحسان النية في النخبة التي أوصلها الحراك إلى السلطة، والتعويل على قدرة الاختيار الحر في إنجاز الفرز، وتمييز الخبيث من الطيب، وتطويق جغرافية الفساد مع الزمن، وتثبيت مبدأ التداول على السلطة، فإني أخشى عليها أن تكون قد ورثت أدوات ورموز السلطة والحكم ليس إلا، لكنها، مثلها مثل الأنظمة الساقطة، تبدوا فاقدة لأدوات إدارة المجتمعات وعقلها الجمعي، الذي يخضع لعملية إحلال واحتلال متواصلين بمفردات الثقافة المهيمنة، بعد تفكيك وإعادة تركيب معقدة لمكونات الهوية الأصيلة، التي صمدت لقرابة ألف وخمسمائة عام أمام الحملات الغربية المتواصلة لهدم الحصون الإسلامية من الداخل كما وصفها المودودي. لا أشك لحظة في قدرات القوى الإسلامية في تجنيد المواطن المسلم، في ما حصل حتى الآن من مسارات انتخابية أوصلت الإسلاميين إلى السلطة في تونس، والمغرب، ومصر، وقد تنجح غدا في الجزائر واليمن، لكني لا أراها تمتلك أدوات تحرير العقل الجمعي للشعوب العربية المسلمة من قبضة الاحتلال الثقافي الغربي واستبداده الناعم، وهي التي تبنت منذ البداية أدوات الغرب في الحكم وإدارة الشأن العام، وانساقت إلى نفس الخيار الذي قاد من قبل قوى اليسار في أوروبا إلى التنكر لقيمه، ليتحول في بحر عقود قليلة من قوة يرجى منها البديل، إلى خادم جيد ومبدع للنظام الليبرالي الذي كان يشتغل على إسقاطه، لأنه ارتضى الدخول في مسار تغيير من الداخل بأدوات النظام الذي كان يريد إسقاطه.
الناكر والمتنكر للبديل الإسلامي فمع وجود هذه الترسانة الهائلة من أدوات صناعة وقيادة الرأي، التي ليس لنا فيها سهم أو نصيب، حتى حين ترتدي عباءة الأعراب، وعمائم شيوخ الدين، ومع ارتهان منظوماتنا التعليمية بالنسق التعليمي الغربي، وارتواء شعوبنا من المضامين الثقافية الغربية المهيمنة في كل ما نستهلك، وفي جميع أوجه حياتنا اليومية، ومع هرولة نخبنا، غربيها وشرقيها، نحو التطبيع مع مفردات البديل الغربي في إدارة الشأن العام، والمال، والاقتصاد، والتعليم، والأعمار، حتى مع بداية انكشاف سحر الوصفة وبطلانها في موطن المنشأ، فمع كل هذه المقدمات التي تشرف بنا على النهايات، لا أرى كيف تغرينا السلط الجديدة التي أفرزها الربيع العربي على الثقة بقدرتها على تحرير إرادة المواطن المسلم وعقله، وتحرير سياسات دولنا واقتصادياتها من التبعية والارتهان لقوى الاستكبار العالمي، حتى حين يكتب لها التوفيق في تحرير السلطة ومؤسسات الحكم من الاستبداد بالسلطة والمال، الذي هو وجه واحد، من بين ألف وجه ووجه للاستبداد، ومظهر واحد، من بين ألف مظهر ومظهر للفساد.
حساب العجائز لحل معادلة من الدرجة الثالثة مدار إدارة الشأن العام يظل على الدوام مرتهنا بقدرة ولاة الأمر على تضييق الفجوة بين سقف التقوعات عند الشعوب، والقدرات الفعلية التي تسمح بالاستجابة لها، وبتحقيق الجزء الأكبر، والمشترك العام من التوقعات. ومع إخفاق الأنظمة الفاسدة الساقطة أو المرشحة للسقوط في تحقيق الحد الأدنى من سقف التوقعات المتراكمة مع الزمن، وارتفاع سقف التوقعات المفرط على هامش الربيع العربي، فإن القوى المرشحة لتولي إدارة الشأن العام سوف تواجه بمعادلة من الدرجة الثالثة بمجاهل ثلاث: الأول: سقف توقعات تتحكم في صناعته، والترويج له، والتحريض عليه، أدوات لا تمتلكها السلط الجديدة، هي بيد من يمتلك اليوم وسائل التواصل وصناعة الرأي في المنظومة الإعلامية الغربية المهيمنة. الثاني: قدرات ومقدرات ذاتية، هي في الغالب خارج سيطرة الدول، يتحكم فيها أرباب المال والأعمال في المركز والضاحية، وتخضع لعملية استنزاف متواصلة في ما ننقاد إليه من حروب وفتن ناهيك عما يتلفه سوء الإدارة والتدبير، أو تعتلفه الزمر الفاسدة. الثالث: طلب مفتوح على الاستهلاك بلا حدود، في مجتمعات عربية توقفت عن العمل والقراءة، لكنها تشاهد وترى، وهي في استعجال من أمرها على استهلاك ما تشاهد وترى في جنة الدجال الغربي، لأننا لم نكلف أنفسنا مئونة العودة بها إلى النموذج الإسلامي الذي يستهلك فيه الفرد ما يضمن اسمرار الحياة، والقدرة على الوفاء بتكليف الاستخلاف في الأرض وفعل الإحياء، وليس الذي يحيى فيه الفرد ليستهلك ما ينتجه الغير.
أحلام اليقظة لأمة تشاهد ولا تقرأ ولأن الفرد في مجتمعاتنا قد خرج عن سلطة إدارة الآباء، وشبكة التلقين الاجتماعي والثقافي، الذي كانت تضطلع به المؤسسات التقليدية للعشيرة والقبيلة والمسجد والكتاتيب القرآنية، واستلمته منظومة تربوية تصنع غرباء في مجتمعاتهم كما وصفها أحدهم، وهو اليوم عرضة على مدار الساعة لعملية غسيل دماغ متواصلة، هي التي تصنع له حاجياته ورغباته، وتصوغ له بالوكالة طلباته، وتوسع أفق طموحاته، وتحدد له بالضرورة سقف توقعاته من سلطة بلده، فإن السلطة والدولة كيف ما كان لونها، وصدقت نوايا أربابها، سوف تفني العمر والجهد والمقدرات دون أن يكتب لها التوفيق في تضييق الهوة بين سقف التوقعات الذي يصنعه الغير، وما بين يديها من المقدرات المرتهنة في الغالب بأيدي الغير، وهذا مني تقرير حال، وليس صناعة لليأس.