بقلم: ربى الحايك/ لبنان تضجُّ خزائني بالهدايا.. وتنوء بزحمة السنين العابرة وها إني أهيّء للغد هدية من حنين تتساقط على مرأى الحياة.. كما تساقطت الأرغفة الحديدية من مقلة الراحلين.. منذ أعوامٍ وهذا العمر يتجه ليقتني هدية جميلة يقدمها لأمه في يوم عيدها.. أو في يوم رؤيتها.. أو في اليوم المدوّي لراحتيها تودعاني. ومنذ سنين مافتئت الرغبة في تقديمها تعجن قلبي.. لينضج في ذاكرة رائحة الفرح التي كانت تتسلق ملامح أمي.. وابتسامتها الخائفة من الأيام المقبلة. كلُّ الهدايا التي كنتُ أراها في يوم لاتليق بمحبتي وعطاء أمي ، أجدها اليوم مناسبة جدا ومافتئتُ أنتظر كالأطفال عبور العيد لأقدمها بملء المعرفة بحقيقتها ومعناها. وكم من الهدايا الكانت خجولة من نفسها باتت تستلقي على دمعتها تفرّغ أحاديث الوجد على مسامع العابرين صفحة أخرى من التجربة. فيا أيها الأمس عليك أن ترمي لي ببقايا ما تبقى معك.. رمادُ نرجسةٍ.. آهةُ ياسمينةٍ.. غفلةُ من صباحٍ مضى.. شهقةُ ليلة موتٍ. أعدْني.. وارمي لي نفسي قبل فراق ألحّ عليّ بليلة قررتُ فيها أن أبتاعَ هديةً لأمٍّ أخذتها ليالي الرحيل.. وتلحَّفت بها الدروبُ.. ومعها مضتْ.. ** أراك تمرّين تحتَ الشمسِ.. وفوق الحسِّ أرتّبُ الشعور لك.. وأعيد حياكة القصة.. وأخبار الدروب الحالكة.. والممرات الضيقة.. هذا شعورُ صباحٍ ماعدتُ أستيقظُ فيه على وجهك.. وذلك عند مفترق الظهيرة.. أتنازع مع تزاحم الشعور.. وقلّة تهذيبه.. أتنازع مع نفسي كي لايزعجك ضجيجُ الأرصفة على حافةِ الوجد..!!. ** ولأنني لا أجد وقتا إلا لمجاراة الوقت فإنني أسترق النظر بين الفينة والأخرى إلى صور تكبّلت بها اللحظات.. وتمسمر عندها الزمان فجمعت حقائبها.. ولم تنسى لقسوتها إلا أن تترك لنا ذاكرتها.. لستُ أعرفُ كيفَ تستطيعُ الساعاتُ أن تتخلّى عن عقاربها.. وثوانيها لتمضي مهرولةَ الخطى.. وتتركني لي.. لصمتي أضيع في اشتغالي بالذاكرة.؟! وكما قيل :"قد تعود المياه لمجاريها، لكنها لاتعود أبدا صالحة للشرب" هكذا هي أيامي التي عادت لطبيعتها غير أنها فقدت حيويتها، ومرونتها، وابتسامة قلبها. ** أمي القاسية رحلت.. ومنذ زمان الدمع توقفت عن الحضور.. ومنذ اندلاع الحزن أهدتني ثلاثون عاما متقدما ومضت.. أمي القاسية لاتزورني لأهنئها في أية مناسبة ولاحتى في يوم عيدها.. تركت الايام تتجرع خيبتي كلما عانقتها في صور أوجعها حنيني.. وتحسّست فيها راحتي بأنامل تشعرني أنها باتت من الزمن البعيد. نعم.. أردتُك ماءً.. بلالون ولا رائحة، أردتك ماء يروي الحياة في صحراء صباحاتي. ** عندما تخدُشُكَ الذاكرة.. يهرولُ الوجع وأنتَ تستيقظُ على زحمة الحنين.. ودعوى الرحمة.. ودمعةِ الشمسِ على من رحلوا.. على من ناموا قربَ الغيمِ.. على بعدِ سنين من مساحةِ الرؤية.. وقاب حسّينِ أو أدنى من القلب.. يقولونَ الأمسَ ولّى ومضى.. فيا أمي .. وهذا الوراء عنوان الأمام.. أراك تمضين في كل صباح.. وتعاودين الرحيل ليتساقط الإحساس ذاته داخل الضلوع التي تتعثّر في نبض أوردتها كلّما تكاثرت هداياك التي أجمعها في خزائني حتى نطق بها الحسّ المرعب وأضناني.. فإن صمَتَ القلبُ الفاضَ حزناً.. لاتظنّي النسيان شرّعَ مراكِبَه.. وقولي: قدْ تجاوزَ الصدى المدى.. حتى تراءى ناطقاً فيه الترابُ.. وأنا التي إن أردتُ رؤيةَ حنانٍ ولّى عني.. قبّلتُ خدّ السماء.. وصافحتُ يدَ الشمسِ.. ومنّيتُ النفسَ بأنها تغلّبت على موت الصباح.. ** عندَ أوّل صحوةٍ للشمسِ يستيقظُ الياسمين.. فأشرب القهوة مع الصباح كأنك تمرّين في الضلعِ.. ها قد لمحتك.. تهربُ العين مني.. قد خبأتُ الكثير عنك..وخبّأتُ الكثير لك في غيابك.. وأنا بين زفير الوجع، وشهيق الخطى أتنفس رائحتك مع الهواء تطمئنُّ ابتسامتي أن الورد لم يزل بخير.. وأنّ الحمام سيطيرُ مجددا من نافذة القلب.. ** ماذا أقولُ وعروةُ الذاكرة تضيق بأزرار وجهك. وددتُ لو أعيدُ لك أمانتك التي تركتها عندي دون تبدّلٍ يمتزج فيها مع تبدّل وجه الحياة.. وأعيدي لي ذاتي التي كانت، وخذي عني أحمال الهموم والغربة التي تركتها عندي على مرأى من الزمن.. فإني مافتئتُ من زمنٍ أعجنُ الدمعَ وأخبزهُ على تنور قريتنا.. ومافتئتُ أُنضِجُ برغيف الرحيلِ أبتلعه غير مصدّقةٍ.. بل لاأعرفُ كيف كان رحيلك.. ومتى حدث فعلا ذلك الوجع.. ** أردت أن أهديك شيئا ما.. أردتُ أقطف لك زهرة أو أبتاع هدية.. لمن أعطيها.. لمن؟؟ تمرّ أمامي الجموعُ.. تبتاع هداياها للحنان.. تقدّمها بيدها.. بقبلتها.. بالحياة لستُ أملك إلا قافيتي التي لاتصلك.. لستُ أملكُ وجهك أقدم له حتى دمعتي..