يتمثل البعد الخاص بغياب الأمن الوظيفي فيما أكدت عليه الدراسة من أن ضغوط المنافسة العالمية دفعت بالدول إلى تطبيق سياسات عمالية أكثر مرونة تقوم على غياب أطر قانونية تضمن حقوق والتزامات طرفي الشراكة في العمل، وذلك كنوع من أنواع اتجاه الدولة لتقليص التزاماتها تجاه الموظفين فيما يتعلق بالضمانات الاجتماعية، ويبرز غياب الأمن الصحي كأحد تداعيات العولمة على الأمن الإنساني كنتيجة لفتح الحدود وما يترتب عليه من سهولة انتقال الأمراض، فالعدوى أصبحت الآن تنتقل بسرعة هائلة، إذ تشير الدراسة إلى أنه في عام 1998 بلغ عدد المصابين بالإيدز في العالم حوالي 33 مليون فرد منهم حوالي 6 مليون شخص انتقلت إليهم العدوى في عام 1998 وحده، وبذلك فهناك في المتوسط 16 ألف شخص تنتقل إليهم العدوى يومياً، يعيش 95% منهم في الدول النامية والدول الأقل نمواً في العالم، ووفقاً لإحصاءات عام 2003 بلغ عدد المصابين بالإيدز في العالم حوالي 40 مليون شخص تتركز النسبة الأكبر منهم في الدول النامية، كما يوجد حوالي 3 مليون شخص في المتوسط يموتون سنوياً من جراء العدوى، أما الشق الخاص بغياب الأمن الثقافي فيبرز في أن ما تقوم عليه العولمة من انتقال المعرفة وامتزاج الثقافات يتم بطريقة غير متكافئة، تقوم على انتقال المعرفة والأفكار من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة وفى أحيان كثيرة تمثل الأفكار الوافدة تهديداً للقيم الثقافية المحلية، ويتمثل غياب الأمن الشخصي في عصر العولمة في أن أمن الأفراد أصبح أكثر تعرضاً للخطر، إذ سهلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عمل الجماعات الإرهابية فالجريمة أصبحت تنفذ في دولة ما بواسطة أشخاص من دولة ثانية وأسلحة من دولة ثالثة وتمويل من دولة رابعة والضحايا قد يكونون من دول أخرى، أما عن تداعيات العولمة على البيئة فقد أكد التقرير على أن غياب الأمن البيئي يعد أحد تحديات العولمة، فالبيئة هي العنصر الأكثر ضرراً في ظل العولمة وما يفرضه هذا من مخاطر على الأمن البشرى، فالضغط على الموارد وسوء استخدامها أصبح يهدد أمن البشر في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، خاصة أن استهلاك الموارد البيئية في معظم الأحيان يتسم بعدم التوازن بين الدول الغنية والفقيرة، إذ يشير التقرير في هذا الصدد إلى أن 20% من سكان العالم المتقدم يستهلكون 84% من الورق في العالم وما يسببه ذلك من ضغط على الموارد البيئية، أما العنصر الأخير الذي حددته الدراسة تمثل في غياب الأمن السياسي والمجتمعي، إذ أضفت العولمة طابعاً جديداً على النزاعات تمثل في سهولة انتقال الأسلحة عبر الحدود وهو ما أضفى عليها تعقيداً وخطورة، وكذلك انتعاش دور شركات الأسلحة والتي أصبحت تقوم بتقديم تدريب للحكومات ذاتها، وهو ما يمثل تهديداً خطيراً للأمن الإنساني، ورغم أن دور العولمة كمصدر تهديد للأمن الإنساني، وإن كان في حالات كثيرة، يُعد دوراً جوهرياً إلا أنه في حالات أخرى لا يتجاوز دور الوسيط أو الأداة المسهلة ومن ذلك مثلاً دور العولمة في إذكاء بعض النزاعات والعمليات الإرهابية وما إلى ذلك، إذ إن دور العولمة تمثل في تعقيد تلك الأنماط من مصادر التهديد للأمن الإنساني وكذلك زيادة تأثيرها دون العمل على بروزها، ومن هذا المنطلق لا يمكننا التعويل على العولمة بصورة مطلقة كمصدر رئيس لتهديد الأمن البشري، وفى هذا السياق يصبح المطلوب هو البحث عن آلية ملائمة لمواجهة تحديات الأمن الإنساني في القرن ال21، بحيث يتطلب التعامل مع مشكلات الأمن الإنساني البحث عن إطار جديد من "الحكم الرشيد الإنساني"، وبوجه عام، يُقصد بمفهوم الحكم الرشيد الإنساني نظامُ للحكم يقوم على مراعاة الاعتبارات الإنسانية، وتتمثل العلاقة بين المفهومين في أنه بينما يركز مفهوم الأمن الإنساني على تحقيق ظروف الأمان والرخاء البشرى، نجد أن مفهوم الحكم الرشيد الإنساني ينصرف إلى إيجاد مجموعة من القواعد العامة التي تتعامل مع قضايا الأمن الإنساني في هذا الصدد ومن ثم فكلاهما يكمل الأخر. وبوجه عام، فإن هذا النظام للحكم الرشيد لا يكون على المستويات المحلية فحسب، بل يشمل المستويات الإقليمية والعالمية، وهو ما يتطلب إصلاح ما تُعانيه المستويات الثلاث من خلل في صدد الحديث عن سبل تحقيق الأمن الإنساني، فعلى المستويات المحلية، فإن جزءاً كبيراً من مشكلات الأمن الإنساني يكمن علاجه في إصلاح ما نُعانيه من أوضاع مختلة على المستوى الداخلي، والتي يتطلب التعامل معها وجود إدراك بكافة أبعادها وتداعياتها بما يمكن أن يسهم في التخفيف من حدتها، ومن أكثر ما تُعانيه الدول وخاصة الدول النامية من أوضاع مختلة تكمن في قضايا التسلح، فرغم ما شهده العقد الأخير من القرن ال20 من اتجاه نحو تخفيض نسب الإنفاق العسكري وإعادة تخصيصها للإنفاق على قضايا التعليم والصحة والقضايا التنموية بوجه عام، إلا أننا ما زلنا نلاحظ ارتفاع نسب الإنفاق العسكري في عددٍ من الدول غالبيتها إن لم يكن كلها يندرج في إطار الدول النامية مما يزيد من خطورة المشكلة، وتُثير قضايا الإنفاق العسكري إشكالية رئيسية تتعلق بالتوفيق بين اعتبارات الأمن الإنساني والأمن القومي، إذ تميل الدول إلى تغليب اعتبارات الأمن القومي على الاعتبارات المتعلقة بالأمن الإنساني، ومن ثم فإن تحقيق التوازن بين الإنفاق العسكري والإنفاق التنموي يُعد أمراً غاية في الأهمية خاصة بالنسبة للدول النامية التي تبرز فيها تلك الإشكالية بصورة أساسية، وهو ما يتطلب إطاراً ملائماً للتوفيق بين اعتبارات الأمن التقليدي واعتبارات الأمن الإنساني. من ناحية ثانية، تُعانى كافة الدول تقريباً من عدم الارتباط بين الأبنية والمؤسسات الاقتصادية والسياسية ومؤسسات الحماية الاجتماعية، فالقرارات الاقتصادية والسياسية تتخذ دون دراسة كافية لنتائجها الاجتماعية والإنسانية مما يزيد قضايا الأمن الإنساني تعقيداً. على المستوى الإقليمي، يُقصد بمفهوم الحكم الرشيد كإطار لتحقيق الأمن الإنساني التركيز على تقوية المؤسسات الإقليمية في التعامل مع مشاكل ومصادر تهديد الأمن الإنساني، خاصة أن المنظمات الإقليمية تتسم بالفاعلية في التعامل مع غالبية مشكلات الأمن الإنساني التي تتسم في معظمها بأنها ذات طبيعة متداخلة ومتشابكة ولا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بمفردها، ومن ذلك مشكلات اللاجئين على سبيل المثال، إذ تتسم بعض المناطق بأنها ذات طبيعة خالصة من حيث عملية اللجوء، ومن ثم فإن التعاون الإقليمي سيكون أكثر ملائمة في هذا الصدد، إذ إن قضايا الأمن الإنساني لا تقل أهمية عن القضايا التجارية والقضايا الاقتصادية التي تطرح بشدة كقضايا للتعاون الإقليمي بشأنها. أما المستوى الثالث لمثل هذا الإطار من الحكم الرشيد كمدخل لتحقيق الأمن الإنساني فيبرز من خلال التركيز على الإصلاح المؤسسي على المستوى العالمي وإنشاء مؤسسات على المستوى العالمي كفيلة بالتعامل مع مصادر تهديد الأمن الإنساني، وكذلك إصلاح نظام المساعدات الدولية، فإصلاح نظام المساعدات يُعد من القضايا المهمة والمؤثرة في التعامل الكفء مع مشكلات الأمن الإنساني في الوقت الحالي، وهنا يجب التأكيد على أمر أساسي وهو ضرورة تغيير الفكر الخاص بالمساعدات من زاويتين تتعلق الأولى بضرورة وجود إدراك لدى الدول المقدمة للمساعدات بإلزامية تقديمها للمساعدات للدول الفقيرة، فضغط الأولى المتزايد على الموارد البيئية سبب وما زال يسبب ضرراً متزايداً للأخيرة، وعلى هذا الأساس فالدول المتقدمة ملزمة بتعويضها عن تلك الأضرار، ومن ذلك يكفى أن نشير إلى أنه إذا كان 5/1 سكان العالم في الدول المتقدمة يستهلكون 84% من إنتاج الورق في العالم، فإنها في المقابل عليها تعويض 5/4 سكان هذا العالم عن هذا الاستهلاك المتزايد للموارد البيئية، أما الأمر الثاني هو أنه بالنظر إلى نظام المساعدات في الوقت الحالي نجد أنه ما زال يحمل طابع الحرب الباردة من حيث تركيز توجيه المساعدات إلى الدول الحليفة وتوجيه جزء كبير من تلك المساعدات إلى الإنفاق العسكري في دول تتسم بارتفاع إنفاقها العسكري، والأهم من ذلك هو التهديد المستمر باستخدام سلاح قطع المساعدات للضغط على الدول المتلقية لتلك المساعدات. وهو ما يتطلب ضرورة إيجاد لجنة في الأممالمتحدة تكون مهمتها التنسيق الدولي لقضايا المساعدات بحيث تتولى اللجنة مهمة توجيه الدول نحو مجالات توجيه المساعدات، كما أن هناك ضرورة لصياغة ميثاق دولي خاص بتوجيه المساعدات والذي يجب أن يركز على أوجه توجيه المساعدات ويضع ضوابط على الدول المتلقية لتلك المساعدات تتعلق بإنفاقها العسكري وضرورة تخفيضه كشرط مسبق لحصولها على المساعدات، وكذلك تحديد أوجه إنفاق أو توجيه تلك المساعدات والتي يجب أن ترتكز على القضايا التنموية فحسب، فمن الضروري وجود اتفاقية دولية أو ميثاق دولي يضع الأسس الملزمة للدول في استخدام وتوجيه تلك المساعدات، أما المحور الأهم في هذا الصدد فيتمثل في ضرورة إصلاح الأممالمتحدة ومن ذلك ما اقترحته لجنة الحكم الرشيد وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، إذ اقترحا تشكيل مجلس الأممالمتحدة للأمن الاقتصادي على غرار مجلس الأمن الدولي ويمكن تطوير الفكرة لتصبح مجلس الأمن الإنساني وأهمية مجلس الأمن الإنساني في حال إنشائه في تعامله مع قضايا الأمن الإنساني في مجملها في حين أن مجلس الأمن الاقتصادي يتعامل مع قضايا الأمن الاقتصادي فحسب، أما فيما يتعلق بالربط بين طبيعة عمل هذا المجلس وعما إذا كان سيمثل أساساً للتدخل الدولي الإنساني، هنا يجب التأكيد على أن فكرة إنشاء المجلس ستكون شبيهة بنفس الفلسفة التي يقوم عليها عمل مفوضية الأممالمتحدة لشئون اللاجئين إذ تقوم بعمل اجتماعي- إنساني بالأساس، فتدخل المفوضية في أي دولة لحماية اللاجئين أو النازحين الداخليين لا يُنظر إليه على أنه تدخل في الشئون الداخلية لتلك الدولة وإنما هو عمل له طبيعة اجتماعية بالأساس ليس له أبعاد سياسية وهى ذات الفكرة التي في سياقها تتم الدعوة لإنشاء مجلس الأمن الإنساني ليقوم بعمل ذي طبيعة اجتماعية بالأساس.