أعتقد أن الانقلابيين في مصر .. لم يستخلصوا النتائج الصحيحة مما يجري حولهم .. و لم يقرؤوا تاريخ الحركة الإسلامية .. و لم يلاحظوا – بصورة جيدة - تطور أفكارها و ممارساتها .. في العالمين العربي و الإسلامي .. كي يختاروا السير في الاتجاه السليم .. و يستقروا على الفكرة الصحيحة . كما أظن أنهم لم يستوعبوا التجربة المصرية في حد ذاتها .. فلم يتعلموا من دروس المواجهة مع الجماعة الإسلامية .. حين مارست الخروج على السلطة .. و تصدر العنف و العنف المضاد الساحة المصرية .. كما أخفقوا في قراءة دور الإخوان - الذين يجسدون مدرسة الوسطية و الاعتدال - في تحقيق نوع من التعايش - على ما فيه من مرارة – بين السلطة و الإسلاميين .. تعايشا كان يمكن أن يتحول إلى نوع من تقبل الآخر .. في سياق البحث معه عن نقاط الالتقاء .. على حساب نقاط التنافر .. و مساحات الاختلاف . *** في الجزائر .. و تحديدا في التسعينات .. وقع احتكاك مباشر بين السلطة و الجبهة الإسلامية للإنقاذ – التي هي عبارة عن فصيل سياسي إسلامي أفرزه الانفتاح الديمقراطي الناشئ - .. في ظل احتفاظ كل طرف بمسافة تبعده عن الآخر .. و تمنع صوته من بلوغه . لقد أدركنا لاحقا أن مواقع متطرفة في كلا المعسكرين .. كانت تدفع إلى الصدام .. أملا في اجتثاث الطرف الآخر .. بتقدير أن التعايش بينهما مستحيل .. و التنازل من أجل التقارب غير مسموح به . تداعيات المأساة الوطنية أظهرت تدريجيا .. كيف ينعكس التطرف سلبا على الجميع .. و كيف أن دخانه الخانق و آلامه .. لا توفر أحدا .. حتى من كان بعيدا عن المشهد .. أو حاول النأي بنفسه .. كان شيء من ذاك الدخان يخنقه . اليوم .. نعتقد أن جملة من الخيارات و الإجراءات – على محدوديتها طبعا - .. مكنت الجزائر من محاصرة الآثار القاسية للتطرف .. فمن جانب أدركت السلطة أن استئصال التيار الإسلامي برمته .. و تحديدا المعتدل منه .. يعني فتح أبواب الجحيم كلها .. و استعداء حتى من كان يؤمن بالعمل السلمي .. أي الزج بالجزائر في أتون ناري .. يحمل مخاطر تفكيك الدولة . و مثل السعي إلى استيعاب الأحزاب السياسية الإسلامية .. التي اتسم فكرها و أداؤها بالاعتدال .. نقطة تحول في مسار الأزمة .. و مكن من تنفيس أكثر من احتقان .. و وفر فضاء للإسلاميين .. لممارسة نشاطهم السياسي ضمن الأطر القانونية و الرسمية للدولة .. بعيدا عن الأقبية و المواقع الخفية .. في ظل مصالحة وطنية .. مهما قيل عنها .. نعتقد أنها وفرت الكثير من دماء الجزائريين .. و سمحت بفتح كوة في جدار التنافر .. و أتاحت تحقيق تقارب .. نعتقد أنه سيقوى و يتسع و لو بعد حين . *** أعتقد أننا في الجزائر .. أقرب إلى الالتقاء .. منا إلى الافتراق .. فالهواجس و التحفظات .. و سوء الظن بالآخر .. ما عادت تعني الكثير .. بالنسبة إلى شرائح واسعة من فعاليات المجتمع .. و ليس لها رصيد حقيقي في الواقع .. باستثناء أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن مصالحهم الخاصة .. لا تتحقق إلا بإقصاء التيار الإسلامي .. و في أحسن الأحوال محاصرته بسياج من الممنوعات . فهل أدركت السلطة في الجزائر .. أنه لا جدوى من إضاعة الوقت في ممارسات عقيمة .. يكون الهدف منها تغييب الصوت الإسلامي ؟ ربما انتبهت إلى هذا .. و اكتشفت أن تجفيف المنابع .. لا يمنع الجزائريين من إعلان انتمائهم للإسلام ..سواء تعلق الأمر باحتشادهم في المساجد .. أو احتفاظهم بمظاهر تشير إلى تدينهم .. أو منح ولائهم الانتخابي للتيار الإسلامي .. رغم ما يكتنف العملية الانتخابية ذاتها من تجاوزات . اليوم .. لا يشعر المرء .. أنه مستهدف بسبب تدينه .. و لا حتى بسبب ولائه السياسي .. و إن بقيت بعض التحفظات قائمة .. نعتقد أنها ممارسات أفراد و جهات .. أكثر منها تعبيرا عن سياسة دولة .. أو خيارات سلطة . في المقابل .. نعتقد أن الأحزاب الإسلامية الناشطة .. قد هذبت الكثير من ممارساتها .. و أصبح خطابها أكثر اعتدالا و عقلانية و واقعية . لقد جنبنا هذا التقارب .. و السعي لاستيعاب الآخر .. و لو في نطاق محدود .. أهوال التطرف .. و عمل على امتصاص الغلو .. و ضيق إلى حد ما تلك الأفكار التي تروج للتحارب .. بدل التلاقي على خدمة الأمة و الدولة .. في ظل هوية واضحة المعالم .. متسامحة و إنسانية . *** في كل ما يقع الآن في مصر .. ثمة أكثر من عفريت .. يصب الزيت على النار .. و يشعل الحرائق في كل مكان .. و كان يمكن للفرقاء المتشاكسين أن ينظروا حولهم .. و يعيدوا تقدير حساباتهم الخاصة .. فاستئصال الإخوان غير ممكن .. و لو كان ذلك متاحا .. لأنجزه عبد الناصر من قبل .. و مبارك من بعد . إن من حظ مصر .. أن لديها هذا التيار الإخواني المعتدل .. فرغم ما لحقه من عنت و ظلم و تنكيل .. لا يزال تيارا سلميا .. يجتنب العنف .. و يقدم مصالح الأمة على مصالحه الخاصة .. مجنبا مصر الكثير من الانزلاقات الخطرة .. في أكثر من محطة و موقف . لكن و للأسف .. إن ما يبدو بمثابة اعتدال من جانب حركة الإخوان .. و استجابة منهم للتعايش مع الأطراف الأخرى .. تقابله في الجانب الآخر ممارسات شرسة .. لا تقبل إلا تأويلا واحدا : الرغبة الجامحة في استئصال هذا التيار المعتدل !! ما هو تفسير هذا الموقف ؟ و لماذا اختار العسكر و من يقف وراءهم الزج بمصر في مستنقع صراع لا شيء يبرره على الإطلاق ؟ أقدر أن الأسباب القائمة وراء هذه الخيارات المميتة .. تكمن في : طغيان الحسابات الآنية المحدودة .. على الرؤية الاستراتيجية لتطور الأوضاع .. فالانقلابيون يعتقدون أن إقصاء المنافس الحقيقي لهم و هم حركة الإخوان بشقيها السياسي و الدعوي .. هو ما يمنحهم أفضلية البقاء في السلطة .. من خلال انتخابات شكلية . الضغط الخارجي الذي تمارسه الحكومات الخليجية .. للتخلص مما يعتقدونه خطرا مستقبليا عليهم .. أعني حركة الإخوان التي تقدم نموذج الحكم .. الذي سيغري الشعوب الخليجية بثورة .. تقلب الطاولة على شيوخ النفط و أشياعهم من شيوخ الفتوى . إن الإسلام الخليجي القائم في شطر منه .. على مؤسسة دينية متماهية في السلطة الحاكمة .. و تمارس بالنيابة عنها فعل التنويم السياسي للمواطنين .. بحاجة إلى سلطة تكن عداوة تاريخية لحركة الإخوان .. و تعمل على محاصرتها .. و لم لا .. استئصالها ؟ .. أليس هذا ما يفسر .. سيل التهاني و الهدايا .. التي أغرق بها حكام الخليج .. عسكر مصر الجدد ؟ !! ضغط التيار اللائكي المتطرف .. من الليبراليين و القوميين و الناصريين و اليساريين .. و غيرهم من هذه الأطياف المتآكلة سياسيا و انتخابيا .. و التي ترى في الإخوان الخصم اللدود .. الذي يحرمها من حصتها في كعكة الحكم . فهؤلاء لا يهنأ لهم عيش سياسي بحضور الإخوا ن .. إذ دلت الانتخابات السابقة أن حظ اللائكيين في تحقيق أي اختراق انتخابي محسوس ضعيف جدا .. مادام الإخوان في الساحة .. حيث ينزلون في كل مرة بمرشحيهم .. لتكون لهم الغلبة و الأغلبية . التطرف القبطي .. الذي كشفت عنه الكنيسة الأرثوذوكسية .. و تولاه البابا شخصيا .. سواء بمباركته الانقلاب على الرئيس الإسلامي المنتخب .. أو المساهمة في الحشد المتظاهر في ميدان التحرير .. فهذا التطرف الكنسي لا يميز بين إسلاميين وسطيين .. يتقبلون الآخر – و لو كان على دين مختلف - .. و يفسحون له المجال بينهم ( ترشيح أقباط في قوائم الإخوان ) .. و إسلاميين يمكن أن يدعوهم غلوهم إلى مهاجمة الكنيسة .. و إذكاء نار حرب دينية .. نؤمن أن مصر في غنى عنها . التواطؤ الإسرائيلي الأمريكي .. القائم على الاحتفاظ بنظام تابع .. تحكمه اتفاقيات كامب ديفيد .. و تتولى تقييده المساعدات و المنح الاقتصادية و العسكرية التي يذهب جزء معتبر من ريعها إلى جيوب العسكر و السياسيين الفاسدين . *** الخلاصة .. ماذا ينتج عن هذا التطرف الانقلابي إن استمر على هذه الوتيرة.. و حاول تحقيق أهدافه الظاهرة و المستترة ؟ أعتقد أنه سينتج تطرفا مضادا .. لا يسلم منه أحد .. رغم اعتقادنا أن حركة الإخوان - بحكم رصيدها التاريخي و الفكري و قناعاتها - لن تنجر وراء هذا السيناريو .. لكن من يضمن ألا يولد تطرف ما .. في زاوية غير مرئية .. من تلك الزوايا التي لا قد ينتبه لها أحد .