مفهوم الأمن القومي لأية دولة مرتبط بتحديد مجموعة التهديدات الأمنية التي قد يكون لها تأثيرا على الاستقرار السياسي والوحدة الإقليمية والمصالح الوطنية، وعليه تضع الدولة الراشدة سياساتها الداخلية والخارجية للوقاية من تلك التهديدات والمخاطر، وتتخذ كل التدابير لتحقيق الأهداف الأمنية التي ترتب أولوياتها النخبة الحاكمة، وفي الحالة المصرية مع قطاع غزة، فإن النظام المصري بمؤسساته التنفيذية والتشريعية والدينية اعتبر بناء النظام الفولاذي مسألة حيوية وإستراتيجية لوقف التهديد الأمني المستمر القادم من قطاع غزة عبر الأنفاق التي يحفرها الفلسطينيون لتهريب السلاح والمخدرات. وهو ما يصبح ضرورة شرعية كما أفتى بذلك مجمع البحوث للأزهر، وقضية سيادية لمصر لا يجوز التدخل فيها كما أفتى سياسيا وزير الخارجية أبو الغيظ. وفي الواقع، فإن النظام المصري في بنائه للجدار الفولاذي على حدود لا تتجاوز 14 كلم مع قطاع غزة تطرح مجموعة من الحسابات لدى صانعي القرار في مصر، يمكن اختصارها في أهداف محلية وإقليمية ودولية، فيما يخص الأهداف المحلية، فإن نظام مبارك يحسب الخطر الذي يهدد الاستقرار السياسي للنخبة الحاكمة من قبل حماس باعتبارها أحد تنظيمات الإخوان المسلمين الذي يؤرق النظام في الداخل ويطرح نفسه كبديل للحزب الحاكم، وبالتالي فإن مصر مبارك لا تقبل بأي نجاح سياسي لحكومة فلسطينية يقودها الإخوان المسلمون، وهو السلوك المصري في تعاملها مع حكومة هنية منذ فوزها في الانتخابات التشريعية مع الضغط الذي يمارسه المفاوض المصري على جماعة حماس لفرض المصالحة مع فتح، والنتيجة بالأساس أن صانع القرار المصري يحسب ألف حساب لنظرية الدومينو التي تقول أن سقوط فتح ونجاح حماس قد يغري الداخل المصري لتكرار التجربة مع الإخوان خصوصا بعد نجاح التجربة الشبيهة في تركيا مع حزب العدالة والتنمية القريبة فكريا وإيديولوجيا من الإخوان المسلمين. ووفق هذا الطرح، فإن مصر تهدف من وراء الجدار الفولاذي عزل سكان غزة عن حماس بسياسة التجويع وخلق انقلاب اجتماعي على حكومة لم تجلب لهم إلا العدوان والفقر. كما يهدف الجدار الأمني في بعده الإقليمي إلى حسابات مصرية ترى بأن هناك سيناريو قائم لدى إسرائيل وحاولت تطبيقه في العدوان الأخير على غزة، يتمثل في طرد الفلسطينيين من قطاع غزة وإبعادهم لمنطقة سيناء المجاورة، وهو الخطاب الذي برر به النظام المصري حصاره وغلق معبر رفح أيام العدوان الإسرائيلي على غزة الذي خلف 1400 شهيد ويبرر به بناء الجدار الفولاذي. كما أن من بين الأهداف التي لا تقل أهمية في الحسابات المصرية، أن الأنفاق قد تعزز المقاومة الفلسطينية التي تجد لها مساندة مجتمعية في الداخل المصري وهو ما يتعارض والسياسة العامة التي تسلكها مصر منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد التي تلزمها بالحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي وبناء تحالفات سياسية ودبلوماسية وتطبيع اقتصادي كامل، ومن ثمة يمكن أن نفهم الطرح الذي يرى بأن الجدار الفولاذي لا يدخل في إطار السيادة الكلاسيكية للدولة المصرية، وإنما نابع من اتفاق أمني مصري، إسرائيلي أمريكي تم التوقيع عليه بين وزيرة الخارجية الأمريكية غوندوليزا رايس ووزيرة الخارجية الإسرائيلية تسبي ليفني بتنفيذ مصري لمنع إمداد المقاومة بالسلاح والذخيرة، لأن تجربة ما بعد العدوان أثبتت بأن إسرائيل لا تستطع أن تقضي على المقاومة أو حتى أن تصل لرؤوس حماس كما عجزت عن تدمير قيادة حزب الله في لبنان، وهو ما يفسر القضية المطروحة من أن الجدار الفولاذي يتم تمويله من المساعدات الأمريكية وبتعاون مهندسين أمريكيين بما يخدم الأمن الإسرائيلي. أما منطق الحسابات الدولية، فإن النظام في مصر يبني شرعيته على الرضا في الخارج، يحاول أن يكسبه من دبلوماسية شرم الشيخ بخلق قناعة لدى واشنطن وباريس ولندن بأن الحل النهائي للقضية الفلسطينية يمر عبر القاهرة، وهو ما نجده في مجموعة القمم والوساطات التي يحركها عمر سليمان والآخرون لتحييد كل القوى الإقليمية التي يمكن أن تنافس هذا الدور المصري، وفي هذا الإطار ترى مصر في حماس القوى السياسية التي تخرق هذا الدور المصري في تحالفاتها مع طهران والاستناد إلى دمشق وأنقرة، والتحرك نحو الدوحة، وهي عواصم عربية وإسلامية لا تقبل منهم مصر أي دور يجعلها تفقد شرعيتها في المنطقة الإقليمية مما يفقدها الشرعية الدولية، خصوصا وأنها البلد الثاني بعد إسرائيل الذي يتلقى المساعدات المالية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولهذه الحسابات وغيرها تبقى مصر مصرة على بناء الجدار الفولاذي حتى وإن استدعى الأمر توظيف الأزهر لإعطاء التبريرات الشرعية والدينية التي تسقط عن النظام أي ذنب أخلاقي أو سياسي، أخلاقي بإبعاد الارتباط التاريخي بين مصر وقطاع غزة الذي كان خاضعا للإدارة المصرية منذ قيام إسرائيل في سنة 1948 إلى غاية هزيمة ,1967 وسياسيا باختزال الأنفاق في المخدرات والجريمة المنظمة، في الوقت التي تتساءل تعارض فتاوي أخرى طرح الأزهر وتتساءل، ألم تدخل امرأة النار بسبب هرة حبستها ولم تطعمها طبقا للحديث المتفق عليه، الذي يقول ''دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض''، والحديث قياس كيف يمكن أن نمنع مليون ونصف مليون فلسطيني أن يصلوا إلى كسب قوتهم وبأموالهم في سجن كبير حبسهم فيه اليهود برا وجوا وبحرا، مع الفرق الواضح هنا بين التي دخلت النار في قطة والذي يهدد بتجويع شعب بأكمله، مانعا القوافل الإنسانية أو التزود بالدواء وحليب الأطفال والغاز للتدفئة والطهي..