تمر اليوم الذكرى ال 58 لإضراب الطلبة الجزائريين عام 1956، وهي المناسبة التي تم اعتمادها بعد الاستقلال كعيد للطالب الجزائري، والمصادف لل 19 ماي من كل سنة، دلالة على أهمية وتأثير الحركة الطلابية في مسار الثورة التحريرية، والدور الريادي الذي لعبته النخبة الجامعية في احتضان الثورة وتعبئة المناضلين للكفاح ضد الاستعمار الفرنسي. وهي النخبة التي أمدت الثورة التحريرية بشعلة إضافية وأعطتها دفعا قويا لدحض ما كانت تروج له فرنسا الاستعمارية آنذاك بأن ما كان يجري في الجزائر لا يعدو كونه "أعمال شغب" يقوم بها الغوغاء من الشعب الجزائري. ولن نبالغ إذا قلنا إن هذه المناسبة السنوية والذكرى التاريخية المجيدة أصبحت تقتصر على احتفالات ومهرجانات غناء ورقص في المؤسسات والأحياء الجامعية، وهو ما يمس برمزية الحدث وتاريخيته، في وقت صارت الدول الكبرى، بل وحتى تلك المصنفة في خانة الدول النامية، تراهن كثيرا على أهمية النخبة الجامعية، وتولي اهتماما كبيرا للباحثين والبحث العلمي، حيث خصص صناع القرار في تلك الدول حيزا كبيرا من الاهتمام بمراكز البحث والدراسات وقاموا بتطويرها ورصدوا لها ميزانيات ضخمة وقاموا بتوثيق العلاقة مع الأكاديميين والباحثين، إيقانا منهم بالدور الريادي الذي تلعبه الجامعة في التنمية المحلية وتطوير المجتمعات. وتعتبر ماليزيا أولى الدول التي يمكن الاستشهاد بها والتي طورت البحث العلمي واعتمدت عليه من أجل تطوير سياستها التنموية، حيث رد الرئيس الماليزي السابق على سؤال أحد الصحفيين حول سبب تطور ماليزيا بأنه يكمن في "الاهتمام بالبحث العلمي وتطويره"، وكذلك السياسة الأمريكية، الداخلية والخارجية، والتي تبنى دائما على أساس أكاديمي ووفق دراسات وبحوث واستطلاعات مراكز البحث والمخابر العلمية. وبعد نصف قرن من الاستقلال، صارت وضعية الجامعة الجزائرية محل تساؤل الأكاديميين والسياسيين والمواطنين، في ظل تقارير وتصنيفات دولية أشارت مؤخرا إلى الوضع الخطير الذي بلغته الجامعة الجزائرية وانحطاط مستوى البحث العلمي، والقطيعة بين صناع القرار والأكاديميين والباحثين الذين تم تقزيمهم وتحولوا إلى أساتذة فقط تقتصر مهامهم على أداء وظيفتهم البيداغوجية المتمثلة في التعليم في مدرجات الجامعات أهم من الوظيفة الأخرى وهي البحث والتنقيب العلمي. النشر أهم مشكل يعرقل البحث العلمي أساتذة يتخلون عن البحث العلمي والظفر بالشهادة غاية الطالب تعتمد التصنيفات العالمية للجامعات، والتي احتلت الجامعة الجزائرية مكانة غير مشرفة فيها، في إصدار تقاريرها على معايير تشمل كل الجوانب التعليمية والبحث العلمي وتبادل المعرفة والتلقين والتحصيل العلمي. وبعيدا عن تلك التقارير التي طعن البعض في مصداقيتها، يمكن اكتشاف التقهقرالذي بلغته الجامعة الجزائرية، وذلك من خلال جانبين، البحث العلمي، أي الإنتاج العلمي للأساتذة والأكاديميين ومن جانب آخر التحصيل العلمي لدى الطلبة الجامعيين. يوجد في الجزائر حوالي 42200 ألف أستاذ جامعي وحوالي 600 مخبر بحث و8 مراكز بحث فقط على المستوى الوطني، وبذلك تبقى الجزائر بعيدة عن الأرقام والمعايير العالمية في مجال البحث العلمي، حيث يشير المعدل العالمي للبحث إلى وجود 1600 باحث لكل مليون نسمة، بينما لا يتعدى معدل الباحثين على المستوى الوطني ال 600 باحث لكل مليون نسمة. ويبقى الإنتاج العلمي ضعيفا جدا، وسبب ذلك، حسب العديد من الأساتذة الجامعيين، غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي، حيث إن الميزانية المخصصة للقطاع ضعيفة جدا، مقارنة بالعديد من الدول التي تخصص ميزانية ضخمة لذلك، حيث لا تتجاوز ميزانية البحث العلمي في الجزائر 0.63 من الناتج الداخلي الخام للبلاد. ويرجع بعض الأساتذة ضعف الإنتاج العلمي في الجزائر، إضافة إلى نقص ميزانية القطاع، إلى المشاكل الاجتماعية التي يتخبط فيها عمال القطاع كالأجور والسكن، وهي المشاكل التي نالت، حسب أحد الأساتذة، من سمعة الأستاذ الجامعي والباحث، وجعلته يغرق في مشاكله الاجتماعية اليومية بدل أن يتفرغ للبحث العلمي. ويفترض أن يكون الأستاذ الجامعي باحثا بالدرجة الأولى، حيث انقلبت المعادلة وصارت مهام غالبية الأساتذة والأكاديميين محصورة في جانبها البيداغوجي، أي التعليم وتقديم الدروس في المدرجات وقاعات التدريس. احتلت المرتبة 29 إفريقيا بعد المغرب وإثيوبيا الجامعة الجزائرية في ذيل ترتيب تصنيفات الجامعات العالمية يطرح تصنيف الجامعة الجزائرية في ذيل ترتيب الجامعات العالمية وإقصائها من أحسن الجامعات في دول العالم من طرف تصنيفات منظمات عالمية أكثر من تساؤل، ففي وقت يرى باحثون وأكاديميون أنها تصنيفات ذات مصداقية وتعكس الوضعية المتردية للجامعة الجزائرية، ترى وزارة التعليم العالي، مثلما جاء على لسان الوزراء المتعاقبين عليها، أن تلك التصنيفات ليست ذات مصداقية ولا تعكس حقيقى الجامعة الجزائرية، مستعرضين العدد الكبير للجامعات التي تم تشييدها ومراكز ومخابر البحث المتوفرة وعدد الباحثين. حيث احتلت الجامعة الجزائرية مرتبة متأخرة في تصنيف منظمة المدارس حيث صنفها الموقع العالمي للمنظمة في آخر تصنيفاته 4ICU والجامعات لعام 2013 في المرتبة ال29 إفريقيا، بينما سبقتها العديد من الدول العربية والإفريقية. وقد احتلت جامعات جنوب إفريقيا المراتب الأربعة الأولى، على رأسها جامعة "كاب تاون"، بينما تلتها في المرتبة الخامسة جامعة "دار السلام" التنزانية. واحتلت جامعة القاهرة أولى أحسن الجامعات العربية على مستوى القارة الإفريقية في المرتبة السادسة، وبعدها جامعة أوغندا، ثم جامعة المنصورة. وقد جاء ترتيب الجامعة المغربية حسب التصنيف العالمي في المرتبة العشرين لجامعة "أغدال"، و الجامعة النيجيرية في المرتبة ال23، تلتها جامعة "أديس أبابا" في إثيوبيا. لتأتي جامعة العلوم والتكنولوجيا "هواري بومدين" في المرتبة ال 29 إفريقيا. ويطرح هذا التصنيف للجامعة الجزائرية في هذه المرتبة أكثر من تساؤل، حيث سبقتها في الترتيب جامعات دول ضعيفة اقتصاديا وتنمويا مقارنة بالجزائر، مثل إثيوبيا والسينغال ونزانيا. وكانت الجامعة الجزائرية قد احتلت ذيل الترتيب في تصنيفات عالمية أخرى في السنوات الأخيرة، على غرار تصنيف مجلة التايمز لأحسن الجامعات في العالم، وكذلك التصنيف العالمي "شنغهاي" الذي أقصى الجامعة الجزائرية كلية من تصنيفه لأحسن 500 جامعة عالمية عام 2012، والذي احتلت فيه الجامعات الأمريكية صدارة الترتيب الذي احتلت فيه جامعات إسرائيلية مكانة مهمة، إضافة إلى الجامعات الأوروبية، بينما صنفت جامعة سعودية واحدة إضافة إلى جامعة واحدة من جنوب إفريقي، فيما تم إقصاء الجامعة الجزائرية من هذا الترتيب، وهو ما دفع العديد من الأكاديميين والجامعيين للمطالبة بفتح نقاش وطني موسع من أجل الوقوف على وضعية الجامعة الجزائرية ومستقبلها في ظل هذه التصنيفات. صورتها تشوهت في نظر الطالب وعزوف عن الالتحاق بها الحركات الطلابية تسقط في دوامة المطالبة بالإطعام والنقل كانت الجامعة الجزائرية في سنوات السبعينيات والثمانينيات تشهد حراكا ونشاطا جمعويا ونقابيا منقطع النظير، حيث كان الطلبة يتحلون بالفكر النضالي، وهو ما جعل الجامعة الجزائرية آنذاك تتمتع بوزن كبير بين الجامعات العالمية آنذاك. لم تعد التنظيمات الطلابية تتمتع بالشعبية الطلابية التي كانت تتمتع بها من قبل، بحيث تشوهت صورتها، ولم تعد في نظر الطالب الجامعي تنظيمات تدافع عن حقوقه وإنما تدافع عن مصالحها وامتيازاتها الخاصة، وتقوم بتنفيذ أجندات أحزاب سياسية. في جولة قامت بها "البلاد" استجوبت خلالها العديد من طلاب جامعة وهران حول نظرتهم للتنظيمات الطلابية، تبين أن معظم الطلبة لا يتمتعون بالفكر النضالي ولا يمارسون النشاط الجمعوي والنقابي وينفرون من كل التنظيمات الجمعوية والنقابية، وينظرون إليها نظرة فيها الكثير من عدم الثقة والتشكيك في مصداقيتها ونزاهتها. ويرى بعض الطلبة أن تلك التنظيمات في حقيقتها مغايرة تماما لما تظهر عليه في الشكل، فهي، يقول أحد الطلبة، "تظهر أنها منظمات هدفها الاهتمام بالطالب والدفاع عن حقوقه، وترفع شعارات حماية الطالب والدفاع عنه، لكنها في الواقع تدافع عن مصالحها الخاصة". وفي حديث مع العديد من الطلبة عن مدى ثقتهم في تلك التنظيمات، أكدوا أنهم لا يثقون فيها إطلاقا، وهذا حسب خبرتهم، يقول طلبة سنة رابعة من قسم التاريخ، "فقد وقعنا عدة مرات في مشاكل مع الإدارة والأساتذة وكانت حقوقنا تضيع، وكنا نستنجد ببعض تلك التنظيمات لكنها لا تقدم لنا شيئا". وحول ما إذا كانوا قد تلقوا عروضا من أجل الالتحاق بالمنظمات، أجاب طلبة من قسم الشريعة أنهم تلقوا عدة عروض لكنهم رفضوا، أنهم لا يثقون في صدقها ونزاهتها. وصرح طلبة آخرون أن غالبية من يلتحقون بتلك التنظيمات ليس عن قناعة بمبادئها ومن أجل الدفاع عن حقوق الطلبة، بل يلتحقون بها فقط من أجل الحصول على امتيازات تمنحها لهم الإدارة سواء على مستوى الجامعات أو الإقامات الجامعية، ففي هذه الأخيرة تتم معاملة طلبة التنظيمات معاملة خاصة، فيحصلون على امتيازات في الإطعام، ولهم الحق في الاستفادة من حصص تفوق حصة الطالب العادي، بل إن بعضهم ولثقل وزنهم داخل الإقامات يبسطون سيطرتهم على مختلف المصالح في الإقامات. فمثلا ممثل إحدى التنظيمات الكبيرة يمتلك مفاتيح مطعم إحدى الإقامات ويدخلها متى شاء، وأنا أرفض الالتحاق بتنظيم من أجل الحصول على حصة إضافية في المطعم"، يقول أحد الطلبة. ربط انحطاط الجامعة بفشل المنظومة التربوية الدكتور رابح لونيسي: "هناك قطيعة بين السياسي والأكاديمي والجامعة الجزائرية في انحدار" يربط الدكتور والمؤرخ رابح لونيسي في حوار مع "البلاد" بين انحطاط مستوى الجامعة الجزائرية والمنظومة التربوية، كما يؤكد على الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه الجامعات ومراكز البحث والعون الذي باستطاعتها أن تقدمه لدوائر السلطة وصناع القرار والذين يعيشون في الجزائر بعيدا وفي قطيعة تامة عن الأكاديميين، كما يشرح لونيسي في هذا الحوار أسباب ضعف البحث العلمي في الجزائر. ^^^ ما تقييمكم لمستوى الجامعة الجزائرية منذ الاستقلال؟ من المفروض أن الجامعة هي المؤثر في الشارع، لكن نحن الآن نرى العكس، فالشارع أصبح هو المؤثر في الجامعة، والجامعة الجزائرية في انحدار مستمر، فنحن بعد الاستقلال لم نبن الجزائر على أساس علمي. ^^^ التصنيفات العالمية للجامعات تعتمد على البحث العلمي كمعيار أساس لترتيب أحسن الجامعات، ما هو تقييمك للبحث العلمي في الجزائر؟ البحث العلمي في الجزائر متدني لعدة أسباب، فمنطق العلاقات والولاءات مازال يحكم مراكز البحث والمخابر، وهل النشر في الجزائر يتم على أساس قيمة البحث أم على أساس العلاقات والولاءات؟ ثم هل هناك مجلات علمية؟ هناك أموال كبيرة تصرف على مراكز البحث والمخابر، لكنها لا تنتج وهي ليست مرتبطة بالمجتمع، والسلطة تراهن على الأرقام، فهناك مئات المخابر ومراكز البحث لكنها لا تنتج. ^^^ هل الأستاذ الجامعي سبب في ضعف الإنتاج العلمي وبالتالي الجامعة؟ الأستاذ الجامعي في البداية هو باحث، ثم يأتي العمل البيداغوجي في المرحلة الثانية، وينبغي تقييم الأستاذ على أساس البحث العلمي الذي يقوم به مثلما هو الحال في الدول المتطورة، لكن حتى ولو تم حل هذا المشكل فثمة مشكل آخر سيصادفنا وهو مشكل النشر، هذا إضافة إلى مشاكل اجتماعية أخرى نالت من هيبة الأستاذ والباحث وألهته عن تكريس وقته للبحث العلمي. ^^^ كيف ترى العلاقة بين السياسي والأكاديمي في الجزائر؟ ج أدل عمل على أهمية الجامعة، أن أول ما قام به الاستعمار الفرنسي عند احتلال الجزائر هو إنشاء لجنة علمية لرسم سياسة استعمارية مبنية على أساس علمي. لذلك يجب ربط علاقة وطيدة بين الأكاديمي وصناع القرار، فكل الدول تبني سياساتها على أساس أكاديمي، فالولايات المتحدة لا تصنع سياستها في البيت الأبيض بل في أكثر من ألف مركز دراسات، وفي الجزائر تصنع السياسات على أساس مزاجي، فالسلطة تخاف من النخبة والمثقف وهي سياسة مقصودة حولت الجامعة إلى ما هي عليه، وفي الجزائر ثمة قطيعة كبيرة بين صناع القرار والأكاديميين والباحثين، فهل طرح علينا صناع القرار يوما ما مشكلا معينا لحله؟ والدليل على ذلك مشروع تعديل الدستور، فاللجنة التي أوكلت إليها مهمة إعداد مسودة الدستور تضم أكاديميين انتهازيين تعاقبوا على مختلف الدساتير. ^^^ لا شك أنه ثمة فرقا بين الطالب الجزائري حاليا وطالب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ما سبب ذلك؟ أكيد أن ثمة فرقا كبيرا، والمشكل في تدني مستوى الطلبة الجامعيين يرتبط بالمنظومة التربوية، فالبكالوريا أصبحت شعبوية وسياسوية، غلب عليها رهان الأرقام وهذا لتبليغ سياسات، فنحن نحاول تبرير سياسات نجاح الإصلاح في المنظومة التربوية بعدد كبير من الحاصلين على البكالوريا وهذا على حساب التكوين، وهذا ما أدى إلى وجود طلبة جزائريين ذوي مستوى ضعيف جدا، وكثير من الأساتذة غرسوا لدى الطالب فكرة أن الهدف من دراسته هو النقطة، وهنا أقول إن الهدف لدى الطلبة لا يجب أن يكون النقطة، بل الرغبة في المعرفة والتحصيل العلمي، وهي الرغبة التي ينبغي غرسها لدى الطالب. وقد أدى المستوى الضعيف للطالب الجزائري إلى إقصائه وتهميشه من مختلف النشاطات، وصار غير قادر على المشاركة في النشاطات المهمة. ففي الستينيات أجبر طلبة جامعة الجزائر الرئيس الراحل "هواري بومدين" على الذهاب إلى الجامعة ودخولها والاستماع إلى انشغالاتهم، وتم حينها تأسيس الاتحاد العام للطلبة الجزائريين، كما أن الجامعة كانت مهدا لكل الحركات السياسية والتحررية والتي أصبح الآن الشارع مهدا لها.