تبدو وثائق بنما لا تصب في صالح روسيا للوهلة الأولى، فقد أشار صحفيون يعملون على التحقيق في التسريبات الكبيرة للمعلومات المالية من شركة المحاماة البنمية، إلى أن ما يعادل 2 بليون دولار أميركي في حسابات بنكية خارجية قد تكون مرتبطة بدائرة من الأصدقاء المقربين للرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما قد يلبي طموحات البعض باتهام الرئيس الروسي بالفساد. بعد أيام من الصمت، قام الرئيس الروسي بنفسه بتناول المزاعم المنتشرة، مشيرا إلى أنها جزء من مؤامرة أميركية واسعة للعبث باستقرار روسيا؛ ما مهد الطريق لنظرية مضادة تفسر الأمور بطريقة مختلفة، وتقترح أن موسكو ليست ضحية لمؤامرة أوراق بنما، وفقًا لمقال موسع نشرته صحيفة واشنطن بوست. الفكرة رغم غرابتها، تصبح مثيرة للاهتمام إذا ما علمنا أن الذي قام بطرحها هو: كليفورد جادي، وهو خبير اقتصادي يعمل في معهد بروكينغز، ويعتبر واحدا من أهم الخبراء الغربيين المختصين باقتصاد روسيا، كما كان مستشارا لوزارة المالية الروسية خلال تسعينيات القرن الماضي. وعلاوة على كل ذلك، قام جادي وفيونا هيل من بروكينغز على تأليف كتاب ثري عن شخصية القائد الروسي، تحت عنوان: "Mr. Putin: Operative in the Kremlin". وعبر جادي في منشور على موقع بروكينغز الخميس عن أفكاره بخصوص هذه المسألة، جاء فيه: "قام هاكر مدعوما من الحكومة الروسية في بداية العام 2015 بإرسال إيميل إلى الصحيفة الألمانية زود دويتشي تسايتونج يعرض عليهم التسريبات، وقد كان هذا التواصل الأول الذي قاد إلى الإعلان عن أوراق بنما في النهاية". لا تحوي أوراق بنما أية معلومات يمكن أن تؤذي بوتين شخصيا. وعلى الرغم من أن ال2 بليون دولار التي ذكرناها قد تبدو كاتهام كبير، إلا أن الرابط بين هذا المبلغ، وبوتين ليس رابطا قويا في الواقع، وقد نجا الرئيس الروسي في السابق من اتهامات فساد أقوى من هذه بكثير. *تحوي أوراق بنما الكثير من المعلومات المحرجة بالنسبة لقادة العالم الآخرين. (ويعتقد جادي أن التسريبات التي تخص بوتين وفساده تبدو ضئيلة للغاية وتكاد توصف بأنها ممارسات عمل اعتيادية). *إن حقيقة وجود القليل من الأسماء الأميركية في أوراق بنما، يشير الى أن بعض التفاصيل قد حذفت من الوثائق التي تم إرسالها الى صحيفة زود دويتشي تسايتونج، وأرسلت إلى وسائل إعلام أخرى. إذا كان هذا الأمر صحيحا، ويشير جادي إلى أن غياب هذه المعلومات عند الإعلان عن أوراق بنما يعني أنها تستخدم لأغراض ابتزازية. واعتبر جادي ذاته، الادعاء الذي ادعاه "جريئا"، مضيفا "هذا الادعاء ليس نظرية بكل تأكيد، بل بالكاد يمكن اعتباره فرضية. لكني أعتقد أنه اقتراح لابد أن يؤخذ بجدية وتخضع بنوده للتحقيق والاستقصاء". وعلى الرغم من تعريف جادي ل"فرضيته"، إلا أن هذه الادعاءات قد أثارت نوعا من البلبلة حول العالم؛ فقد نشرت كارين داويشا، وهي أكاديمية تدرس مواضيع الفساد الروسية عن كثب، تغريدة، الجمعة، تقول فيها، إنها وبالرغم من احترامها لجادي، إلا أن فكرته الأخيرة فشلت في إقناعها. من ناحية أخرى، قدم البعض الآخر مديحا من نوع خاص لأطروحات جادي، فقد وصفتها الإعلامية الروسية الأميركية ماشا جيسين "بنظرية مؤامرة من العيار الرفيع"، بينما قال برايان ويتمور من راديو فريي يوروب/ راديو ليبريتي في تغريدة له، إن جادي "يستهزئ" بالكرملين. إذا ما نظرنا إلى هذه النظرية بعين الناقد، فلا يمكننا إنكار أن أجزاء منها تبدو منطقية جدا. فأولا، يبدو من الواضح أن بوتين لم يتأثر حقا بفضيحة ال2 بليون دولار، على الرغم من أن زعماء آخرين تجمعهم علاقة مشحونة مع روسيا – مثل ديفيد كاميرون وبيترو بوروشينكو – تعرضوا لخضّة قوية؛ بسبب ارتباطاتهم الخاصة بفضائح تسريبات بنما. قد يتبادر إلى ذهن أحدهم: لماذا لا يواجه بوتين فضيحة محلية بعد التسريبات؟ في الحقيقة، تكمن الإجابة في أن بوتين يعتبر شخصية مشهورة ومحبوبة في روسيا، وسوف يتطلب الأمر فضيحة مالية من العيار الثقيل حتى يأفل نجمه. بالإضافة إلى ذلك، لا تشكل مزاعم فساد بوتين صدمة للعديد من النقاد اللذين يعلمون دون شك أن بوتين فاسد حتى قبل تسريبات بنما – خصوصا بوجود مزاعم تدعي أن ثروة الرئيس الروسي تصل إلى 200 بليون دولار؛ ما يجعله أغنى شخص على وجه الأرض. في المقابل، هنالك أجزاء أخرى من النظرية لا تبدو صحيحة ومترابطة. أولا: على الرغم من أن الكثيرين قد لاحظوا غياب ذكر المواطنين الأميركيين في التسريبات، إلا أن هناك بعض الارتباطات الأميركية مع أوراق بنما. ومن المحتمل أن تظهر أسماء أخرى قريبا مع استمرار تدقيق البيانات الكبيرة التي كشفت عنها التسريبات. أو ربما يكون الأمر وما فيه: (كما أشار سكوت هيجيم من واشنطن بوست في مقاله: يبدو أن المواطنين الأميركيين يفضلون الملاذات الضريبية الآمنة مثل: جزيرة مان وجزر كايمان وسويسرا). لا تتعارض تحليلاتنا هذه مع ما يعتقده جادي نفسه، الذي اعترف فعليا بجميع ما ذكرنا للتو، لكنه يقول إنه حتى لو كشفت التحقيقات عن المزيد من المعلومات في التسريبات، فسيبقى يتساءل ما إذا كانت هناك معلومات لم يتم الإعلان عنها: "كيف لنا أن نعلم أن هذه المعلومات المعلنة كاملة حقا؟ يبدو لي حتى الآن أن السؤال الأساس المسيطر على الساحة هو: ما هي الأسرار التي تحتويها أوراق بنما؟ ولكن في الواقع، يجدر بنا أن نسأل: ما هي الأسرار (الموجودة في ملفات موزاك فونسيكا الأصلية) والتي لم تكن من ضمن أوراق بنما؟". يبدو أنه وبعد سنوات من دراسة معلومات روسيا الحربية، لابد أن تتملك المرء بعض الأفكار حول مؤامرات من نوع ما. يقول جادي: إنه رأى كيف يستعمل بوتين الأسرار المالية "لتدمير الأشخاص في روسيا أو التحكم بهم". والآن وبعدما رأى أسرارًا مالية تخلق مشاكل هائلة بين قادة العالم، لا يستطيع جادي إلا أن يتساءل ما إذا كان بوتين عاد لأساليبه القديمة مرة أخرى.