لعل السؤال المطروح حاليا، وربما لوقت طويل، هل يجوز أن يضحي معارض سياسي وقس عليه معارض نقابي أو صاحب رأي دفاعا عن ”أمة” شعارها لا كرامة فيها حتى لنبي! هذا الأمر جدير بالطرح مع وفاة المرحوم عبد الحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير بما تحمله من إرث نضالي وثقل سياسي ذهب في مهب الريح، وهو الذي قاد معارضة دستورية رزينة ومسؤولة من أجل إعادة وضع النظام على السكة والتي لم يضع فيها قدما بعد· وما قابلته تلك الوفاة من لامبالاة مطلقة من الجمهور وعامة الناس، ولا أقول النخبة المثقفة وإن وجدت أصلا، لأن جزءا من هذه الأخيرة حضر وهو أضعف الإيمان!
الشهداء لن يعودوا!
قد يكون السؤال نفسه مستلهما من مقولة مهري نفسه حين عرضت عليه السلطة حراسة مقربة حفاظا على روحه وخوفا من شبح الإرهاب الذي طالت روحه على طريقة روح القط بسبعة أرواح، وتزيد ولا يريد أن يذهب أو يولي الأدبار، مما طرح أسئلة حقيقية حول من يحركه أصلا، وحين عرضت على حزبه وهو أمين عام له لا يتلقى أوامر من أحد باعتبار أن الأفلان خرج في وقته من عهد ”الزاورة” أي الغطاء للسلطة، أن يقف على بابه بوليس· فقد قال آنذاك إن الحزب يحرسه مناضلوه!
ومعنى هذا الكلام أن المسألة مرتبطة برمتها، سواء كانت حزبية أو فكرية، بقناعة لدى أصحابها وبالتالي تخلق بينهم لحمة الاتصال والنضال المشترك لتتحول المسألة إلى قضية لا تموت بموت أصحابها، وإنما يسيرون معه على واحد ممن سقط في جنازته لإثبات حضورهم على الأقل···
فأين هم جموع المناضلين ومعه عموم الشعب (الجزائري) الذين غابوا كلية، ولم يظهر لهم أثر ولو برقيات تعازٍ ومواساة لعائلة الفقيد أو فخامة الرئيس كما فعل الملك المغربي محمد السادس مثلا!
وهذا ما يجعل السؤال المطروح حول التضحية وواجب التضحية مشروعا··· فلما يضحي الواحد بوقته أو جهده أو ماله أو مصالحه أو حتى نفسه، أو بكل هذه الأمور من أجل قوم تبع مطأطئين رؤوسهم تغشاهم الذلة ويتمتعون بقدرة عالية على تتفيه الأمور الجادة وفعل ذلك معكوسا!
في الأمثلة العربية تضرب أمثال في هذا الموضوع كالقول هذا جزاء سنمار (الذي كووه بالنار) وفي الأمثلة الشعبية نماذج كثيرة عن أخبار الخداعين والغشاشين والانتهازيين (الخبزيست) وكل المتاجرين بالقضايا بما فيها القضايا التي تعد وطنية، لعل أبرزها ما يقال عن الثورة التي تأكل أبناءها!
وبالمناسبة، ألم يتمن بعض مجاهدي جيش التحرير الوطني ألا يعيشوا مرحلة ما بعد الاستقلال· ومن باب ”لو” التي تفتح نافذة للشيطان واقتباسا لعنوان رواية كاتبنا الكبير الراحل الطاهر وطار ”الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، لو أن قوافل الشهداء عادوا الآن بيننا وشاهدوا بأم أعينهم كيف يمرح الأميون بقوت الخلق ويتفنن الفاشلون في الحفر وإعادة الحفر، وترفل نسوان من الفئة المنحطة أخلاقيا كما قال شاعر عراقي ثائر في الحرير·· لو أن هؤلاء عادوا ورأوا أكثر بأم أعينهم، هل يقبل هؤلاء بالتضحية بأنفسهم؟ الجواب سيكون حتما بالنفي·
وإن كان بعضهم قد يعذر لعل قومي يتقون أو يفهمون أو يعقلون أو تخرج من أحلامهم ذرية تؤمن بالعلم والعمل الحقيقي وليست ذرية أعطوني أو ذرية ”ما اعلا بالي بحد أنا ياخو”!!
ولا هم يحزنون ···!
عودة الآن إلى حالة ”مهري” الخاصة كمعارض، فقد تعاملت معه السلطة القائمة وقتئذ على طريقة تعامل الأنظمة الديكتاتورية مع مثقفيها، حين تجوعهم· وتلجأ حتى إلى قطع حبل الخبزة عليهم بمنعهم من العمل أو جرهم نحو مشاكل هامشية، من أجل تلهيتهم!
فقد منع مهري من الحصول على جواز سفر دبلوماسي مع أن الحصول عليه يستند إلى أربعة شروط قانونية تتوفر فيه، وهذا لاصطحاب زوجته قصد العلاج في الخارج مما جعله يضطر لبيع سيارته، رغم أن كثيرا من الناس العاديين جدا يحصلون على منح وهبات من الدولة للعلاج في الخارج، وإن كان علاجا ميسؤوسا منه· فما الذي يجعله يقبل هذا التحدي لو أنه لم يكن يؤمن بقضية اسمها دولة مدنية وعصرية ليس فيها مجال لحكم الأميين والمفسدين وهم يعدون بالقناطير والأطنان حسبهم سيد أحمد غزالي رئيس الحكومة السابق بنحو مليوني عضو ينضوون تحت لواء الحزب السري كما سماه!
وبالطبع هذا الكلام ورد على لسان الغزال المسمى ”أبو فراشة” بعد فوات الأوان، وحين أحس صاحبهم بأنه كان مجرد خماس عندهم كما صرح بعظمة لسانه، وهو الأمر الذي لم يصل إليه الأستاذ عبد الحميد مهري، وهو الذي رفض أن يتحول إلى ألعوبة بعد كل هذا العمر الطويل لو أنه تقلد منصبا رفيعا عرض عليه أيام بوتفليقة لاعتقاده أن النظام برمته لم يتغير منذ الاستقلال، وليس هناك ما يدل على كونه سيتغير تحت أي شكل من الأشكال باسم الإصلاحات أو ”الإسلافات” أو باسم الشارع النعسان والكسلان إلا من ضجيج أعطوني··!
فلماذا قوبلت جنازة مهري شعبيا باللامبالاة·
قد يكون هناك تفسيرات يمكن سردها من باب إقناع النفس على مضض لأنها لا تصمد كثيرا:
يمكن أن تجسد شخصية مهري غير الفعالة عمليا وهذا أحد المآخذ التي نؤاخذه عليه مع صبره الأيوبي وتريثه نموذجا لشخصية لا تستجيب لحركية الشارع الذي يريد ديناميكية أكبر وحلولا مستعجلة، وبالتالي فهو لا يؤثر فيه بشكل مباشر خاصة أن النخبة المثقفة على قلتها تمارس انتهازية مفضوحة!
قد يكون الرجل تعرض لحصار إعلامي وسياسي من جميع الجوانب بعد أن أحست السلطة بأنه الجهة الوحيدة التي تضايقه بأفكاره ومقترحاته، وبأن البوصلة التي تحدد اتجاهات السلطة الخاطئة في كل ما يتعلق بالثورات العربية المسماة ”الربيع العربي” بترددها أو سكوتها أو حتى بمؤازرتها (بالكلام) في السر والعلن!
وبالطبع هذان التفسيران لا يكفيان لفهم سلوك أمة بحث عنها فرحات عباس في القبور فلم يجدها!
وهو يشبه سلوك السوريين نفسه مع شاعرهم الأول نزار قباني، وقس عليه في عملية إسقاط موقف مجمل السوريين المنقسم من نظام بشار بسبب قوة الموالين للنظام ممن يمكن أن نسميهم الخبزيست أو الانتهازيين·
فقد كان الكثيرون يعتقدون أن جنازة الشاعر العربي السوري ستكون جماهيريا أشبه بجنازة عبد الناصر أو بومدين خصوصا مع النسوان· ذلك أن الشاعر لم يبخل على المرأة السورية أبدا (ومعها المرأة العربية) بفيض شعره الجميل، ومع ذلك لم تصاحب امرأة واحدة سورية جنازته، ولم تخرج إلا القليلات للوقوف أمام جثمانه احتراما له واعترافا بفضله، وهذا الموقف يختلف كلية عما لقيه شاعرنا الكبير وهو يزور تونس مهد الثورات العربية حين استقبله في المطار وفي الطريق إليه، حسب بعض الأخبار، ما يربو على 500 ألف معجب ومعجبة، وبعضهم يتحدث عن خروج نحو 800 ألف أي 80% من إجمالي سكان العاصمة تونس، مما جعله مندهشا ومدهوشا لا يكاد يصدق!
الفرق بين الحالتين التونسية والسورية، ونظيرتها الجزائرية واضح شعبيا وجماهيريا، مع ارتباط فئة عريضة بقضية يخرج من أجلها وعليها رمز وفئة أخرى غير مبالية تبحث عن أعذار والعيب فيها ولا هم يحزنون!