واكب محمد راسم التطور إنطلاقا من زمن حضوره المادي الراهن، فكان الإنسان الذي التفت إلى ماضيه مسجلا حوادثه، آخذا ما أطلق عليه الأوروبيون "ميثولوجيا التاريخ" ..... رسالة جمالية لأزمنة آتية. وأضحى المبحر الحذر في "علم التاريخ"، فتراءى لمن تلقى إبداعاته وكأنه ذلك الناقد لروايات التاريخ أو الباحث في "تاريخ التأ ريخ" مقتفيا آثار تطور الكتابة التاريخية عند المؤرخين المسلمين. وحدد المسارات المنهجية في فن الكتابة التاريخية، باذلا جهده الأول في اكتشاف الأثر واقتناء الوثيقة التي تركها الماضي في أرشيف مفتوح لمن أراد، مرتقيا لمستوى التأليف التاريخي الخاضع أصلا ل "قواعد وأصول المنهج العلمي" مدركا شروط الكتابة التاريخية ومتطلباتها، كما المؤرخ الملم بالعلوم والآداب والفنون التي شكلتها حركة التاريخ الإنساني، والمالك لسعة الأفق وهو يتوخى استخراج معنى الحوادث وبناء أشكالها. وكان "راسم" ذلك الباحث المثابر الجاد في التاريخ وما صنعه من أحداث متلاحقة، صابرا في إنجاز أكثر الأعمال مشقة، لا يبالغ في نقل وقائع الحدث، ولا يثير الصراعات المفتعلة، البعيد عنها في مسيرة بحثة العلمي الجمالي، آخذا خصائص وفضائل مؤرخي الحضارة العربية والاسلامية وهم يألفون التراث الإنساني الكبير. ويدرك هذا المؤرخ التشكيلي إن علم التاريخ لا يقبل الاختبار أو التجريب فاكتفى بالنقل الصادق لأحداث وروايتها بمفردات تشكيلية متحسبا لردود أفعال النقد العلمي المنهجي طالما ظل التاريخ متأثرا بالخصائص الفردية والنزعات الاجتماعية في جميع مراحل الكتابة التاريخية. ويقف صامدا، طائعا لمبادئ الحقيقة التي لا تقبل التحريف، أزاء الوقائع التي تأخذ خصائص التحريم والقدسية وحجبها عن الإدراك العقلي، حريصا على تنمية الحس النقدي المتصاعد بدرجات الوعي العلمي، المتأتي من قراءات عميقة، تتكافأ مع عمق التاريخ، وثقافة ذاتية موسوعة تلاحق دون إبطاء التطور العلمي والأدبي والاجتماعي والفني والسياسي وحتى الاقتصادي، عزز قدرة التعامل لديه مع النصوص التاريخية بمنهج علمي فني دقيق يتقنه كاتب التاريخ المتصف بالعقلانية التي تحضنه من مساوئ الميول والنزعات والأهواء. ولا يعيد محمد راسم كتابة التاريخ، فهو لم يكن ذلك المتخصص في علم له أصوله وأسسه ومناهجه، إنه يبقى محافظا على تلك المسافة المعنوية بين الكتابة التاريخية بمفردات أبجدية وبين تدوين الوقائع بلغة تشكيلية جمالية لا تتخلى عن أخلاقيات الأمانة في النقل لحدث تاريخي ما، ودقة في التعبير.. ويبدو أن راسم قد التزم بمقولة المؤرخ الألماني "موشن": إن الذين خروا أحداثا تاريخية كما خبرت لابد لهم من أن يروا أن التاريخ لا يكتب، بل أن التاريخ لا يصنع بدون حب أو حقد. ف "راسم" لم يكن متجردا في الكتابة التاريخية، هو لم يضح بخصوصياته الشعورية أو الفكرية أو العقائدية، في أعماله النافذة إلى أعماق الأفراد والجماعات، حيث وجد في رحلة البحث التاريخي الطويل وقائع أحبها وشكلت خصائص وجوده، متجليا بمزايا الفضيلة في أخلاقيات الكتابة التاريخية القائمة على معنى حب الحقيقة التي تبعث في روحه شروط التجرد، دون قصد. لقد سعى "راسم" إلى إدراك الماضي الإسلامي وبعثه في رسائل جمالية، انطلاقا من "حب الحقيقة" التي يتحلى بها المؤرخ الأكاديمي، مجسدا رغبته في تقديمها بأشكال لا تتعارض مع المدارك العقلية، وتقديمها للمتلقين الذين هم بحاجة إلى فعل فني حسي مؤثر في إدراك التاريخ الذي لم يترك لنا صوره.... استنادا إلى المصادر الشرعية الموثقة بمنهاج علمي والمقدمة على أي مصدر آخر، وفهما ايمانيا صحيحا يلعب دوره في تفسير الأحداث ورسم أشكالها، إذ يعتمد "منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتفسير حوادثه في أصوله على التصور الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلامية ومقتضياتها هي الأساس في منطلقاته المنهجية، وفي تفسير حوادثه. وتعالت رؤية عبقرية في ملحمة "تاريخ الإسلام" التي حررها محمد راسم تشكيليا عندما كشف عن سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبين المناهج الوضعية التي ظلت تفسر التاريخ تفسيرا عرقيا أو قوميا أو جغرافيا ضيقا وبعيدا عن المضامين الإنسانية المنفتحة، بتقديمه الأحداث بدوافعها وقيمها التي تصنع التاريخ الإنساني دون حواجز تذكر. وكان الهدف التشكيلي الأسمى ل "محمد راسم" وراء العودة إلى التاريخ متجليا في رغبة ابراز العبر الكبرى، في صناعة المجد الذي يظهر أصل الأمة وقدراتها في إعلاء صرح الحضارة الإنسانية. وينهل محمد راسم من التاريخ مزاياه العقلية.. فضائل خلقية عظمى، تتعالى في الرغبة الصادقة في بلوغ الحقيقة التاريخية، التي لا يبلغها إلا فنان يُدرك قدرات الصبر الذاتي، والمثابر الجاد، دون كلل أو ملل في اكتشاف المراجع والأدلة والبراهين، في تدوين حقائق الأحداث... فيتحلى بصفة العقلانية في الإرتقاء إلى الدقة العلمية، والأمانة في التعامل مع مشهد الحقيقة المرئي. ليضحى الشاهد بالقسط، المحصن من مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة، مستندا في رؤياه العلم لا الظن. وتحاشى التفسير الخاطئ للأحداث التاريخية، حين خضع لقانون عصر الحدث وخصائصه، متخليا عن إضفاء أشكال العصر الحاضر ومفاهيمه على عصور مضت، فلكل عصر مزاياه وخصائصه أو ما يسمى في المنهج العلمي بروح العصر، إنها أمانة الفكر وأمانة التعبير معا. واقعية الحدث التاريخي الحدث المحسوس بمؤثرات جمالية أكسب محمد راسم فن العمارة الإسلامي في بنية "المنمنمة التشكيلية" دورا رمزيا للدلالة على واقعية الحدث التاريخي المؤرخ بتشكيلات لونية ومنظور هندسي، فحقق تجديدا ذا قيمة كبرى بشكل العمارة انسجاما مع روح العصر المتغير وتوصلا –منطقيا- مع علم التاريخ ومسيرة الحضارات الإنسانية، وأغنى عالم "المنمنمة الإسلامية" الحالم بمفردات رمزية وطنية تاريخية تفصح عن خصائص الهوية الجزائرية التي فشلت فرنسا في افراغها من مضامينها عندما جعل من القيمة التعبيرية نسقا جمليا يتسامى إلى الفضاءات العلا. ويتجلى في جغرافية المنمنمة، "الديني والدنيوي" الغيبي والمرئي، الخيال والواقعي، فهو المؤرخ الأمين للحدث التاريخي المحسوس بجماليات الفن التشكيلي الذي يأخذ وظائف حياتية كبرى في عالم متغير لا يقف عند نقطة ساكنة. العمارة دلالة على واقعية الحدث التاريخي.. فهي البنية التشكيلية التي أخذت دورها الرمزي في عالم المنمنمة الذي كان محمد راسم أول من مد بناءه العضوي بأدوات رمزية تاريخية... على خطى الرومنطيقيين الأوروبيين ... فقد جعل من العمارة دلالته التاريخية التي ترقي إلى مستوى الرمز المؤثر في محاكاة الزمان والمكان" وهكذا نفذ رائعته الكبرى في تاريخ الفن التشكيلي العالمي "تاريخ الإسلام" بحرفية تقليدية وأدوات معاصرة سجلت التاريخ بمفردات تشكيلية قابلة لأن تقرأ في كل مكان.. ولأبسن بشرية تنطلق كل لغات الدنيا.. محمد راسم كتب "تاريخ الإسلام" بلغته التشكيلية التي استحضر فيها تقليدا بيزنطيا ونمطا قوطيا وروحا رومنطيقية... دون أن يتخلى عن "أناه" ليقرأها الآخر بمضمونها الروحي والموضوعي. بدأ راسم مدونة فصول التاريخ بنزول الوحي الإلهي برموز تتعالى مع قدسية "الحدث" الذي كان منطلقا لتسلسل تارخي متكامل... المفهوم التاريخي الدلالة في فن العمارة الجوهر في مفهوم التاريخ ذاته... حيث سلك مسارات التطور في عالم محمد راسم التشكيلي عبر الانتقال ب "فن العمارة" واكتشاف مدلولاتها الرمزية في تسجيل الحدث التاريخي متواصلا مع بنية اللوحة التشكيلية الأروبية القائمة عوالمها الجمالية على قاعدة المنظور التي استقامت بناءاتها منذ عصر النهضة. فقد جعل فنانو عصر النهضة فن "العمارة، عنصرا حيا يدل على واقعية الحدث التاريخي المتحرك بأبعاده الثلاث وهم يستقون موضوعاتهم من التوراة والانجيل في تشييد بناءات اللوحة التاريخية، كما في أعمال رافئيل ،كارب ،أتشو وفرنشيسكا بيللنيومارنتسو. واندفع رومنطيقيو الفن التشكيلي في أوروبا نحو تعميق النزعة التاريخية من خلال احياء قيمة "الدلالة" في فن العمارة التي تحاكي الواقع بخصوصيتي الزمان والمكان. ولم يقطع محمد راسم سلسلة التطور المشهود في علوم التاريخ وهو يبلغ مرحلة التجديد الكبير في توظيف "العمارة" المكونة لعالم "المنمنمة" وفق مبادئ العصر وأصول علم حضارة متقدمة يسجل تاريخ الفن التشكيلي العالمي تفاصيلها. كتابة التاريخ "محمد راسم" مؤرخا جعل محمد راسم من رائعته الإنسانية "تاريخ الإسلام" كتابا مفتوحا بيدون أعظم حدث غير المسار البشري، فبدأ صفحته الأولى بنزول الوحي الآلهي المعظم في آية قدسية عظمى، يتصاعد معها بتصاعد بناء الكعبة المشرفة، وتسجيل وقائع الفتوحات الإسلامية في أرجاء الأرض، وينتقل بمشاهد الفتوحات الإسلامية من الهند التي يجعل من دلالة عمارتها رمزا يُحاكي الزمان والمكان، فتتجسد دلالته التاريخية في القصر الهندي الشهير "تاج محل".. إلى إفريقيا، حيث تنتصب في شمالها مدينة القيروان التي يُشيد فيها عقبة بن نافع أول مسجد بعمارة مغاربية تفصح عن خصائص بيئتها في مجتمع إسلامي، ثم يتجه إلى اسبانيا التي يُشيد فيها صروح عمارة أندلسية، أرسى حجرها الأساس الخلفية عبد الرحمن الداخل حين دخلها قائدا، فاتحا. ويكشف "محمد راسم" بآليات البحث اللوني وتقنيات الفن التشكيلي، وبقدرة أدواته الإيحائية عن ولادة حضارة إسلامية ازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون. ويمتد "تاريخ الإسلام" بريشة ناطقة بلسان فني حي في سلسلة تاريخية تختصر انتقال العصور في صفحات تشكيلية مفتوحة، لا تقطع منطق التطور بفواصل وقائع مجهولة. والحروب الصليبية كان زمنها عصرا متغيرا، أفردت فصوله بجمالية تشكيلية واقعية اتسعت صورتها لجغرافيا التفاصيل ورمزها المشخص في السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي. وتتوالى العصور في مشاهد تشكيلية تحاكي وقائعها المؤرخة بلغة تسجيلية هي جزء من ذاكرة إنسانية شغلتها طويلا الإمبراطورية العثمانية الوارثة لعصور الخلافة الإسلامية، وتعبر عن خصائصها بنمط العمارة العثمانية الماثلة في صرح جامع السلطان أحمد في مدينة اسطنبول.. ومن هناك يتوغل محمد راسم في العصر الحديث ويمنح السلطان سليمان القانوني حضورا يبوح بدلالات تاريخية، تتواصل بنسق تحول انقلابي لتأخذ أبعادا أخرى تتوزع قبل أن تتجسد في ظهور الملك عبد العزيز آل سعود ظهورا معاصرا، أبان الثورة العربية التي نشبت في أرض الجزيرة. وتبقى العمارة الإسلامية بمسارات تطورها وعناصر خصوصيتها البيئية هي المضمون الذي يتجسد بحيوية مؤثرة في كتابة "تاريخ الإسلام" الذي يتصدر وفق رؤى محمد راسم المتمسك بخصائص "ألأنا" المنفتح على الآخر، موضوعا رئيسيا يتوزع في عصرين: * العصر الأول- العصر العباسي الذي يبدو فيه الخليفة هرون الرشيد رمز إزدهارها وقوتها. * العصر الثاني- عصر الامبراطورية العثمانية الذي ترك فيه السلطان محمد الفاتح الثاني بصماته المتميزة والمشاهد التاريخية المصورة بآلية المذهب الفني الواقعي في منمنمات "تاريخ الإسلام" لم تتخل عن خصائص مكوناتها التقليدية المتوارثة وهي تشهد انفتاحها على قواعد فن المنظور المعاصر، تاركة الدليل التاريخي على خصب الحس الفني لوارث عصور المنمنمات الشرعي "محد راسم" واتساع مداركه الموسوعية في أنماط العمارة الإسلامية بتنوع مدارسها واختلاف عصورها. هكذا أحيا محمد راسم فكرة كتابة التاريخ بلغة تشكيلية معاصرة، أضحت بديلا عن اللغة الناطقة بحروف أبجدية صوتية تطبيقا لمبادئ منهجية التسلسل التصاعدي في تدوين وقائع الحدث التاريخي.