عادة ما يأتي الإنسان العربي إلى الجدل متكئا على قائمة من المرجعيات التي تحدد أفقه وعلاماته الموجهة لطريقة تفكيره وتعامله مع المتلقي، أي على النقل كسند يقيني لا يمكن مساءلته لأنه مكتمل سلفا، ومن ثمّ ضرورة الأخذ بتعاليمه، دون المساس بأي تفصيل، مهما كان ضلالا وخرافة، ينسحب هذا على كل الطبقات الاجتماعية، وعلى الساسة والكتّاب والشعراء ورجال الدين والمحسوبين على الثقافة. ما يعني أنّ النسبية لا تجد لها مكانا في هذه القناعات الإلهية التي نواجه بها الآخر لإقناعه بما نراه صحيحا، سواء كانت هذه القناعات محلية أو مستوردة من الجهاز المفاهيمي الغيري: المدارس الأدبية، الأيديولوجيات، الديانات، السياسات. ما يعني، بشكل ما، أنّ الكمال أصبح سمة جوهرية في منظوراتنا الحياتية برمتها، بصرف النظر عن مستواها الفعلي وقيمتها الوظيفية والتداولية، إضافة إلى شكل تدرّجها، إن كان هناك تدرج فعلي من حيث إنّ القفز على الحلقات غدا قاعدة عامة في يومياتنا. وإذا كان الجدل في الدرجة الصفر، أو يكاد، فلأنّ اليقينيات المدمرة لا تقبل المساءلة والنقض. عقولنا ليست بنيات متحوّلة قابلة للتجدد بالنظر إلى التحوّلات المنطقية التي يشهدها الفكر والثقافات، إنما قوالب نموذجية منضبطة وصارمة كما الثكنة، ومرجعية صنمية لكلّ فعل أو جهد. إنها قريبة من بسرير بروكست في الأسطورة اليونانية. حياتنا الثقافية والأدبية شبيهة بهذا السرير العظيم الذي أصبح مقياسا لكلّ شيء، إذ عادة ما يقوم المثقف السماوي، وأغلبهم كذلك، بمن فيهم الأمّي، مقام الفقيه والعالم والقطب، هناك نبوّة ما في تعاملنا مع المعرفة البشرية، أو في شكل تلقيها وتمثلها وتبنيها وتمريرها للمتلقي بنوع من الثقة المطلقة، ليس كممكنات قابلة للنقاش والحذف والإضافة إلى أن تستوي وظيفيا، بل كمجموعة من الممنوعات التي تحلّ محلّ ممنوعات سابقة لها، وهكذا يتحول الكتّاب والمثقفون والشعراء والأكاديميون إلى أصنام وأوثان، ومن ثمّ إقصاء المختلف في ظل حرب الآلهة والمرجعيات المعيارية الوافدة إلينا. نحن لا ننتج أفكارا وفلسفات وأيديولوجيات ومناهج وفنّا مستقلا، وإذ نستورد مقولات الآخرين وذكاءهم فإننا نقوم مقامهم لتمرير منجزهم بنوع من العصبية التي لا تخلو من البداوة. أي أننا في واقع الأمر، قد نغدو مجرد أقنعة تمثل أدوارا، تماما كما في المسرح: هناك في رؤوسنا تماثيل لأرسطو وبريخت وابن تيمية وماركس وديريدا وابن جني وكامو وماركيز وغيرهم ، وهي التي تقنن آراءنا وتوجهها الوجهة التي تريدها، وكثيرا ما نورط أنفسنا في حروب بالتبني، من هذا النوع السخيف: ماركس في مواجهة فرويد، وعادة ما نمثل أحد الطرفين المتصارعين، سواء بإحيائهما، أو بتقمصهما، دون تمثل وبصيرة، ودون مراعاة طبيعة سياق الإنتاج وسياق الاستثمار ومستوياته. أمّا في حالة انحسار هذه التماثيل وانكسارها في أذهاننا فإننا نستبدلها، لسبب أو لآخر، بتماثيلنا نحن. لذا نصبح مرايا لكل ما يدبّ من حولنا، أو مرجعيات أحادية مكتملة وجب التهليل لها وتقديسها لأنها تمثل حقائق من عالم المثل. المثقفون العرب والكتّاب والشعراء والمفكرون يتحولون، في أغلب الفترات التاريخية، من عباد مضطهدين إلى معبودين يضطهدون كلّ رأي مغاير، ويضطهدون بعضهم، ينزّلون البيان والمعرفة الكلية على الشعوب، من هنا تحولهم إلى كائنات من الورق، أو كائنات شفهية تشكل خطرا على العقل والاختلاف البناء، شأنهم شأن الطغاة والمستبدين عبر التاريخ، ودون مفاضلة تذكر لأنّ الأغلبية منزهة من الزلل، ومؤهلة لأن تكون المرجعية الوحيدة التي وجب إتباعها واقتفاء أثرها. يمكننا، للتمثيل على هذا النموذج السماوي، تقديم آلاف العينات الدالة على هذا الحطام الفكري، وعلى ثقافة الاستبداد التي تتبوأ الصحف والمنابر والكتب والنقاشات المركزية. كأنّ هذا «العقل» الواهم محشوّ بالنبوءات المدمرة. ما يفسر، بعض الشيء، انحسار الأسئلة وانكفاءها في ظل استبداد الثقافة العالمة بكل شيء، أو ما يمكن أن نسميه الثقافات الأصولية من حيث إن كلّ منظوراتنا، على اختلافها، مرهونة بهذه الأصول التي تستمد منها كيانها الخالد، وهو كيان غيري يتميز بالحفظ، وبالتطبيقات الآلية التي لا تراعي السياقات والتباينات والأفراد والجماعات، وحيث الذات جوهرا من الجواهر الثابتة. قناعاتنا لا تتعقبها أسئلة ومراجعات، لذلك تصبح مقدسة، كأيّ طوطم جديد له مقوماته وحدوده التي لا يجب اقترابها. لقد سعى هؤلاء المثقفون والكتّاب إلى تجاوز المقدسات بفرض مقدسات أخرى أكثرا إساءة للعقل والذكاء، كما حاربوا الثالوث المحرم ليفرضوا محرمات على مقاسهم، أو على مقاس إبداعاتهم ومنظوراتهم النقلية، ولم يعد للمتلقي أدنى رأي في ما يكتب أو يقال تفاديا لردود الأفعال التي لا تقبل الرأي الآخر، كأنما تريد من هذا المخاطب الفرضي أن يستمع ويبتلع ما يملى عليه من صحائف، ليس إلاّ. إن لم يعتبر المثقف والكاتب نفسه كائنا ظرفيا، وليس قيمة ثابتة عابرة للأماكن والأزمنة، فإننا سنكون أمام وحش جديد يقوم مقام السياسي المتسلط، ويساهم في تقزيم المبادرة وطمس الآخر، وذلك تماما ما نلاحظه من خلال ما يطرح من مقاربات يقينية، أو من خلال ما أنتج من خصومات ردعية لا صلة لها لا بأخلاق بالثقافة ولا بالكتابة التي تؤسس على جهد سابق قبل أن تكون مؤسسة. إننا أمام مؤسسات معرفية وفنية وأدبية ضاغطة، ومثيرة لأنها تدّعي النبوة، ولا شيء غيرها: مرحبا بالخراب الأعظم.