المبعوث الشخصي الأممي إلى الصحراء الغربية يواصل زيارته الى مخيمات اللاجئين الصحراويين    سايحي يبحث مع المدير العام لمنظمة الصحة العالمية سبل تعزيز التعاون الصحي    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 50669 شهيدا و115225 مصابا    فلسطين: الاحتلال الصهيوني يواصل عدوانه على مدينة طولكرم لليوم ال69 على التوالي    المصادقة على مشروع قرار قدّمته الجزائر    بوغالي يدعو إلى تكثيف الجهود العربية    الخضر يتقدّمون    الخريطة الوهمية تتبدّد !    كل الحسابات مفتوحة في مواجهة الإياب    27 مليون دولار لإنتاج البلوط الفليني في الجزائر    ربيقة يبرز التزامات الجزائر    عرقاب: ينبغي تنويع مصادر تمويل مشاريع الطاقة    الدولة ملتزمة بتلبية متطلبات الصحة    هذا جديد رحلات الحج    وزير المجاهدين يتحادث ببرلين مع عدة وزراء و مسؤولي منظمات دولية    الجزائر وسبع دول من "أوبك+" تعدل إنتاجها النفطي    دعم التعاون الإفريقي بين الدول المنتجة للنفط    تقديم بند طارئ باسم المجموعة العربية حول الوضع في فلسطينين    حجز 68 طنا من المواد الاستهلاكية الفاسدة بقسنطينة    ترويج للثقافة وللتراث الجزائري وتثمين لمواهب الشباب    العدسة في خدمة التراث    الجزائر تودع ملف تسجيل "الحلي الفضّي لمنطقة القبائل" لدى اليونسكو    لا قوة يمكنها اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم    غزة تباد ورفح تنزف أمام عالم يكتفي بالمشاهدة    رئيس الجمهورية يعزي في وفاة قائد القطاع العسكري لولاية تيميمون    إنشاء مصنع لإنتاج الهيدروجين ومحطات للطاقة الشمسية    شباب بلوزداد في مهمة اللحاق بالرائد    الفرنسيون يواصلون حقدهم على عطال بسبب دعمه لغزة    القانون الأساسي والنظام التعويضي: استئناف النقاش الثلاثاء القادم    رحيل المفكّر الاقتصادي الجزائري الكبير عمر أكتوف    " الجمعاوة " أمام محكّ النزاهة    وفاة شخص وستة مصابين في حادثي مرور    هلاك شخص في اصطدام سيارة بشاحنة    الارتقاء بدور المجتمع المدني كفاعل أساسي في التنمية    دي ميستورا يبدأ زيارة مخيمات اللاجئين الصحراويين    وزير الاتصال يشرف على حفل استقبال بمناسبة عيد الفطر    إبراز جهود الجزائر في مجال الذكاء الاصطناعي    برمجة فتح الرحلات عبر "بوابة الحج" و تطبيق "ركب الحجيج"    بفضل مشاريع كبرى أقرها رئيس الجمهورية, الجزائر تسير بخطى واثقة نحو أمنها المائي    التأكيد على التزام الدولة الجزائرية بتلبية المتطلبات التي يفرضها التطور المتواصل في مجال الصحة    الاتحاد العام للتجار والحرفيين يشيد بالتزام التجار بالمداومة خلال عطلة عيد الفطر    كلثوم, رائدة السينما والمسرح في الجزائر    السيد بداري يترأس اجتماعا تنسيقيا لدراسة عدة مسائل تتعلق بالتكوين    اتحاد الكتاب والصحفيين والادباء الصحراويين: الاحتلال المغربي يواصل محاولاته لطمس الهوية الثقافية الصحراوية    ربيقة يبرز ببرلين التزامات الجزائر في مجال التكفل بالأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة    الفروسية: المسابقة التأهيلية للقفز على الحواجز لفرسان من دول المجموعة الإقليمية السابعة من 10 إلى 19 أبريل بتيبازة    كرة القدم/ترتيب الفيفا: المنتخب الجزائري يتقدم إلى المركز ال36 عالميا    قِطاف من بساتين الشعر العربي    تحديد شروط عرض الفواكه والخضر الطازجة    مراجعة استيراتجيات قطاع الثقافة والفنون    فتح معظم المكاتب البريدية    سونلغاز" يهدف ربط 10 آلاف محيط فلاحي خلال السنة الجارية"    الجزائر تودع ملف تسجيل "فن تزيين بالحلي الفضي المينائي اللباس النسوي لمنطقة القبائل" لدى اليونسكو    فتاوى : الجمع بين نية القضاء وصيام ست من شوال    اللهم نسألك الثبات بعد رمضان    لقد كان وما زال لكل زمان عادُها..    أعيادنا بين العادة والعبادة    عيد الفطر: ليلة ترقب هلال شهر شوال غدا السبت (وزارة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مظفر النواب وحيدا
مرايا عاكسة
نشر في الجمهورية يوم 19 - 03 - 2018

يفترض أن لا شيء ينقص هذا الشاعر العراقي الجوّال، كما شعراء التروبادور (بغداد 1934) ليكون في مصف الشعراء المكرسين عالميا، على شاكلة بابلو نيرودا وغارسيا لوركا ولوي أراغون، وغيرهم من الأسماء الكبيرة. ذلك أنّ قصائده من هذا النوع الذي يوقظ فيك ما ضمر من سنين بسبب الخوف من ظلالك، أو ما تبلّد بفعل السياقات المناوئة للحسّ، للغة، وللجمال، ما يعني أنه يملك ما يكفي للتأثير فيك، وبشكل شاعري مدمّر قد يجعلك خرابا غير قابل للرأب.
مع ذلك فهناك شيء جوهري كان ينقصه ليكون شاعرا ذائع الصيت كونيا، كما أصبح هؤلاء مع الوقت، متداولين ومترجمين إلى كلّ اللغات: ولد أغلب الشعراء المحظوظين في مجرّات مضيئة احتضنت منجزهم وروّجت له ليخترق الحدود اللسانية والإقليمية، وليكون مرجعا وقيمة مضافة يفتخرون بها، وولد مظفر النواب في جغرافيا موبوءة، مناوئة للفنّ والعقل والعبقرية، وللإنسان الذي ظلّ حذرا من كلّ ما حوله، كما حصل للشاعر السوري محمد الماغوط، وغيره من عديمي الحظّ في كون ليس لهم.
عاش الشاعر أغلب أوقاته متشرّدا فوق العادة، منبوذا عن آخره. غادر العراق في 1963 بسبب الصدامات العنيفة التي حصلت ما بين القوميين واليساريين، وكانت نتائجها مرعبة، ثمّ حكم عليه لاحقا بالإعدام بسبب قناعاته الأيديولوجية ومواقفه من قضايا سياسية حساسة، قبل أن يخفف الحكم إلى السجن المؤبد، ثم يهرب منه بحفر نفق، وإذ تمّ العفو على أغلب المعارضين العراقيين في 1969 استقر الشاعر في بيروت، ثمّ انتقل إلى دمشق، ليعود إلى العراق متعبا في 2011، مرهقا من الأسفار، من المطاردات والحكايات المثيرة التي عاشها، ومن الواقع المؤلم الذي سينعكس في مجموعة كبيرة من قصائده المهيبة التي كتبها هنا وهناك، كرحالة لا يستقرّ في مكان إلاّ تحضيرا لسفر جديد. كانت كل الأماكن مفلسة من حيث القيم، ضيقة، مناوئة له، كما كانت كل البلدان العربية عبارة عن أقفاص كبيرة، لذلك ظل قلقا كقلب الغريب، منكسرا، وحزينا بفعل التجارب المريرة التي مرّ بها عبر السنين، كما يتجلى في هذا المقطع:
"في كلّ عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي \ في كلّ زقاق أجد الأزلام أمامي \ أصبحت أحاذر حتى الهاتف \ حتى الحيطان وحتى الأطفال \ أقيئ لهذا الأسلوب الفج \ وفي بلد عربي كان مجرد مكتوب من أمي \".
قليلون جدا هم الشعراء الذين عاشوا كما كتبوا، أو كتبوا كما عاشوا، متمردين على الأصنام والنماذج القائمة، مناوئين للشرّ الأعظم، متنازلين عن الامتيازات والإغراءات التي قدمت لهم ليسكتوا، أو ليبتعدوا عن الكتابة المضرّة بجماعات الضغط، ويعتبر مظفر النواب أحد هؤلاء الذين لم يهادنوا أبدا. لذلك خسر كلّ شيء كان يهمّ الاخرين، لكنه ربح كرامته كمحارب زاده الوحيد العلامات الضالة والاستعارات الحية التي رافقته في أسفاره المديدة. لقد عاش بالصدفة، أو كمن يخرج من حرب خاسرة ليدخل في حرب خاسرة سلفا. بيد أنّه قاوم الهزيمة وانتصر على النفس أوّلا، ثمّ على السلبية التي وسمت جيلا من المثقفين والشعراء الذين ظلوا مترددين، متفرجين على المشهد العام، أو مسالمين ومهزومين بانتظار أن تأتيهم الحرية لتدق على أبوابهم المرتجفة.
تبدو لي قصائد مظفر النواب عبارة عن لقاح فعّال، مضاد لأمراض مزمنة كثيرة تصيب الإنسان العربي، وهي كثيرة، ومنها مثلا: عجز النطق، العجز اللفظي، رهاب الأصوات، الفتور، ،عجز الكتابة، رهاب الكلام، احتقار الذات، التأليه، الهوس، الهذيان، عسر التفكير، الخرف، التكيف الشاذ مع الأوبئة، الهلوسة الصوتية، إدمان المدح، السكوت عن المنكر، إلخ. كان مظفر النواب يقدم، في جلّ ما كتبه، وصفات شعرية كافية للقضاء على العجز المقيم فينا، وعلى التواطؤ العام مع العمى، كمظهر اجتماعي مهيمن عبر تاريخنا الحافل بالهزائم.
"كيف أندسّ في هذا القفص المثقل في رائحة الليل \ كيف أندسّ كزهرة لوز بكتاب أغان صوفية؟ \ كيف أندسّ هناك \ على الغفلة مني \ هذا العذاب الوحشي الملتهب اللفتات \ هروبا ومخاوف \ يكتب فيّ \ يمسح عينيه بقلبي \ في فلتة حزن ليلية \ يا حامل مشكاة الغيب \ بظلمة عينيك \ ترنم من لغة الأحزان \ فروحي عربية".
تجربة مظفر النواب عبارة عن مأساة متواصلة، ذلك أنّ القصائد تعكس هذا الإحساس بالرعب المتزايد، ثمّ هذه الصور العجيبة التي تتوالد بكثافة غريبة، هذه القدرة الاستثنائية على الاستثمار في الخيال المتقدم، في التشبيه، في الاستعارة المفارقة للقالب المعياري، هذا المعجم الثريّ، المتشعب، المرجعيات الشعرية والتاريخية المكدسة، العلامات المفتوحة على القراءات والتأويلات؟ كلّ ما في النص يتحرك، كأنّ الكلمات مجموعة من العوالم الضاجة، الدالة على حالات معقدة، ومربكة جدا بالنظر إلى طبيعتها. لا يوجد شيء لا قيمة له، مجاني أو مكرر، كلّ ما في أشعاره له معنى أو مقصد، وأغلب الأبيات جديدة، وخاصة، ما يعكس الجهد الذهني المبذول في الكتابة، أو في التعبير عن النفس المتشظية في محيط مفلس، وغير مبال.
وهذه الوحدة القاسية؟ لا بدّ أن الشاعر كان محزونا، منفيا في الأوطان، وفي ذاته، كهؤلاء الأنبياء الذين خانهم الأتباع فعاشوا في صحراء الربّ، ذلك ما تعكسه أشعار مظفر النواب، ما يشبه اليتم الذي يتجاوز قدرات العلامة اللغوية. ثمة شيء من الانكسار الكلي، من التأزم، من الظلام، من الإحساس بالموت الوشيك، دون سند: إنها وحدة الشاعر في كون لا يعرفه، كون الآخرين:
"ضاع الطريق وكان الثلج يغمرني \ والروح مقفرة والليل في رشح \ هذي الحقيبة عادت وحدها وطني \ ورحلة العمر عادت وحدها قدحي \ أصابح الليل مصلوبا على أمل \ أن لا أموت غريبا ميتة الشبح".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.