يفترض أن لا شيء ينقص هذا الشاعر العراقي الجوّال، كما شعراء التروبادور (بغداد 1934) ليكون في مصف الشعراء المكرسين عالميا، على شاكلة بابلو نيرودا وغارسيا لوركا ولوي أراغون، وغيرهم من الأسماء الكبيرة. ذلك أنّ قصائده من هذا النوع الذي يوقظ فيك ما ضمر من سنين بسبب الخوف من ظلالك، أو ما تبلّد بفعل السياقات المناوئة للحسّ، للغة، وللجمال، ما يعني أنه يملك ما يكفي للتأثير فيك، وبشكل شاعري مدمّر قد يجعلك خرابا غير قابل للرأب. مع ذلك فهناك شيء جوهري كان ينقصه ليكون شاعرا ذائع الصيت كونيا، كما أصبح هؤلاء مع الوقت، متداولين ومترجمين إلى كلّ اللغات: ولد أغلب الشعراء المحظوظين في مجرّات مضيئة احتضنت منجزهم وروّجت له ليخترق الحدود اللسانية والإقليمية، وليكون مرجعا وقيمة مضافة يفتخرون بها، وولد مظفر النواب في جغرافيا موبوءة، مناوئة للفنّ والعقل والعبقرية، وللإنسان الذي ظلّ حذرا من كلّ ما حوله، كما حصل للشاعر السوري محمد الماغوط، وغيره من عديمي الحظّ في كون ليس لهم. عاش الشاعر أغلب أوقاته متشرّدا فوق العادة، منبوذا عن آخره. غادر العراق في 1963 بسبب الصدامات العنيفة التي حصلت ما بين القوميين واليساريين، وكانت نتائجها مرعبة، ثمّ حكم عليه لاحقا بالإعدام بسبب قناعاته الأيديولوجية ومواقفه من قضايا سياسية حساسة، قبل أن يخفف الحكم إلى السجن المؤبد، ثم يهرب منه بحفر نفق، وإذ تمّ العفو على أغلب المعارضين العراقيين في 1969 استقر الشاعر في بيروت، ثمّ انتقل إلى دمشق، ليعود إلى العراق متعبا في 2011، مرهقا من الأسفار، من المطاردات والحكايات المثيرة التي عاشها، ومن الواقع المؤلم الذي سينعكس في مجموعة كبيرة من قصائده المهيبة التي كتبها هنا وهناك، كرحالة لا يستقرّ في مكان إلاّ تحضيرا لسفر جديد. كانت كل الأماكن مفلسة من حيث القيم، ضيقة، مناوئة له، كما كانت كل البلدان العربية عبارة عن أقفاص كبيرة، لذلك ظل قلقا كقلب الغريب، منكسرا، وحزينا بفعل التجارب المريرة التي مرّ بها عبر السنين، كما يتجلى في هذا المقطع: "في كلّ عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي \ في كلّ زقاق أجد الأزلام أمامي \ أصبحت أحاذر حتى الهاتف \ حتى الحيطان وحتى الأطفال \ أقيئ لهذا الأسلوب الفج \ وفي بلد عربي كان مجرد مكتوب من أمي \". قليلون جدا هم الشعراء الذين عاشوا كما كتبوا، أو كتبوا كما عاشوا، متمردين على الأصنام والنماذج القائمة، مناوئين للشرّ الأعظم، متنازلين عن الامتيازات والإغراءات التي قدمت لهم ليسكتوا، أو ليبتعدوا عن الكتابة المضرّة بجماعات الضغط، ويعتبر مظفر النواب أحد هؤلاء الذين لم يهادنوا أبدا. لذلك خسر كلّ شيء كان يهمّ الاخرين، لكنه ربح كرامته كمحارب زاده الوحيد العلامات الضالة والاستعارات الحية التي رافقته في أسفاره المديدة. لقد عاش بالصدفة، أو كمن يخرج من حرب خاسرة ليدخل في حرب خاسرة سلفا. بيد أنّه قاوم الهزيمة وانتصر على النفس أوّلا، ثمّ على السلبية التي وسمت جيلا من المثقفين والشعراء الذين ظلوا مترددين، متفرجين على المشهد العام، أو مسالمين ومهزومين بانتظار أن تأتيهم الحرية لتدق على أبوابهم المرتجفة. تبدو لي قصائد مظفر النواب عبارة عن لقاح فعّال، مضاد لأمراض مزمنة كثيرة تصيب الإنسان العربي، وهي كثيرة، ومنها مثلا: عجز النطق، العجز اللفظي، رهاب الأصوات، الفتور، ،عجز الكتابة، رهاب الكلام، احتقار الذات، التأليه، الهوس، الهذيان، عسر التفكير، الخرف، التكيف الشاذ مع الأوبئة، الهلوسة الصوتية، إدمان المدح، السكوت عن المنكر، إلخ. كان مظفر النواب يقدم، في جلّ ما كتبه، وصفات شعرية كافية للقضاء على العجز المقيم فينا، وعلى التواطؤ العام مع العمى، كمظهر اجتماعي مهيمن عبر تاريخنا الحافل بالهزائم. "كيف أندسّ في هذا القفص المثقل في رائحة الليل \ كيف أندسّ كزهرة لوز بكتاب أغان صوفية؟ \ كيف أندسّ هناك \ على الغفلة مني \ هذا العذاب الوحشي الملتهب اللفتات \ هروبا ومخاوف \ يكتب فيّ \ يمسح عينيه بقلبي \ في فلتة حزن ليلية \ يا حامل مشكاة الغيب \ بظلمة عينيك \ ترنم من لغة الأحزان \ فروحي عربية". تجربة مظفر النواب عبارة عن مأساة متواصلة، ذلك أنّ القصائد تعكس هذا الإحساس بالرعب المتزايد، ثمّ هذه الصور العجيبة التي تتوالد بكثافة غريبة، هذه القدرة الاستثنائية على الاستثمار في الخيال المتقدم، في التشبيه، في الاستعارة المفارقة للقالب المعياري، هذا المعجم الثريّ، المتشعب، المرجعيات الشعرية والتاريخية المكدسة، العلامات المفتوحة على القراءات والتأويلات؟ كلّ ما في النص يتحرك، كأنّ الكلمات مجموعة من العوالم الضاجة، الدالة على حالات معقدة، ومربكة جدا بالنظر إلى طبيعتها. لا يوجد شيء لا قيمة له، مجاني أو مكرر، كلّ ما في أشعاره له معنى أو مقصد، وأغلب الأبيات جديدة، وخاصة، ما يعكس الجهد الذهني المبذول في الكتابة، أو في التعبير عن النفس المتشظية في محيط مفلس، وغير مبال. وهذه الوحدة القاسية؟ لا بدّ أن الشاعر كان محزونا، منفيا في الأوطان، وفي ذاته، كهؤلاء الأنبياء الذين خانهم الأتباع فعاشوا في صحراء الربّ، ذلك ما تعكسه أشعار مظفر النواب، ما يشبه اليتم الذي يتجاوز قدرات العلامة اللغوية. ثمة شيء من الانكسار الكلي، من التأزم، من الظلام، من الإحساس بالموت الوشيك، دون سند: إنها وحدة الشاعر في كون لا يعرفه، كون الآخرين: "ضاع الطريق وكان الثلج يغمرني \ والروح مقفرة والليل في رشح \ هذي الحقيبة عادت وحدها وطني \ ورحلة العمر عادت وحدها قدحي \ أصابح الليل مصلوبا على أمل \ أن لا أموت غريبا ميتة الشبح".