يجب التأكيد، أنّ هناك، وفي كلّ الوقات، أعمالا أدبية عالمية تترك فيك آثارا عميقة لا تمحى، وقد تبعدك عما قرأته سابقا، أو تشلّك عن التفكير في الكتابة إن أنت اتخذتها مرجعا وسندا. ثمة دائما في عالم السرد ما يجعلك تفتخر بالجنس البشري لأنه أنتج هالات تشرّفه فنيا، وبعبقرية، لأنها تكشف عن قدرات العقل عندما يشتغل جيدا لإنتاج هذه النصوص المثيرة التي لا تتكرر دائما في تجربتنا. أعتبر رواية ذئب البوادي، أو ذئب البراري في بعض الترجمات (1927) للكاتب السويسري الألماني هرمان هيسه (1877 1962)، صاحب جائزة نوبل (1946)، من هذا النوع الإبداعي الذي يلجم استهتارنا بالقيم الأدبية العظيمة، وهي، ببذخها اللافت، تجعلنا نعيد النظر باستمرار في ما نكتبه وفي ما نقرأه، في الظرفي والخالد، في القوة والهشاشة، في العمق والسطحية، في الجمال والقبح، وفي الكتابة نفسها كجزء من المعرفة. يحتاج هذا المؤلّف العميق إلى عدة قراءات للكشف عن مضمراته لأنه مفتوح على تأويلات لا حصر لها، ولأنه، إضافة إلى ذلك، يستحضر ثقافات ومرجعيات مركبة تستدعي إعادتها إلى جذورها لمعرفة مختلف المؤثرات. لقد استفاد الكاتب، بنوع من الذكاء الحاد، من مسائل اجتماعية وجمالية ودينية وفلسفية ونفسية وفنية، ثمّ عجنها في قالب سردي متناغم، ومن ثمّ صعب تحويل المؤلف إلى مصادره الفعلية لأنها غدت متحدة معه، جزءا من بنائه وكيانه الكلي الذي أصبح كتلة غير قابلة للتجزئة، أو ما يشبه الشلال. من المعروف أن هذه الرواية اشتهرت بعد قرابة أربعين سنة من إصدارها. لقد حصل لها، على ما يبدو، ما حصل لكتاب "الرواية المسرحية" لميخائيل بولغاكوف التي ظلت مغيبة لأسباب تاريخية وأيديولوجية معروفة، وقد اتكأت ذئب البوادي، في جوهرها، على الطابع السير ذاتي الذي ينقل بعض حياة الكاتب ومواقفه من الحياة والناس، كما يمكن استنتاج ذلك من خلال العودة إلى يوميات المؤلف وانتماءاته وأسفاره وثقافته وخياراته الفكرية والحياتية. للتذكير فإن الكاتب تربى في عائلة بروتستانتية متشددة سرعان ما تخلى عنها بحثا عن نفسه في الثقافات الأخرى، وفي الفراغ. البطل هاري هاللر (48 سنة)، هو نفسه هرمان هيسه، ببعض التعديلات الجزئية كتجاوز للواقع الحرفي، كحذف أو إضافة، كما تقول نظرية الأدب. إنه نسخة منه لأنه يشبه حياته إلى حدّ بعيد، كما تحيل إلى ذلك علامات كثيرة، متواترة ومشتركة: يتخذ الشك منطلقا، متأثر بالفيلسوف نيتشه، ببوذا وغاندي، بالرسم، بأشعار غوته، بموسيقيين كبار، ومنهم موزار وباخ، بمطالعة الأديان. لا توجد، في النهاية، فروق كبيرة بين الاثنين. كلاهما يشبه الآخر في نقاط مفتاحية، وأهمها: الثقافة والفلسفة والموقف المناوئ للمجتمع البورجوازي الذي تخلى عن الروح والقيم الإنسانية، كما يمكن أن نعثر على ذلك لاحقا في المؤلفات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت انكسار المجتمع وهزيمة الروح. هل استفاد الكاتب هرمان هيسه من دراسات فرويد (1856 1939) ويونغ (1875 1961)؟ أم أنهما استفادا من روايته التي تكشف عن أزمة النفس البشرية؟ أم حصل تأثير متبادل بالنظر إلى تقارب المنحى والفترة التي عاشوا فيها؟ في الرواية مجاورات كثيرة، وهي عبارة عن خراب نفسي عجيب، أو ما يشبه العطب الخالد الذي يلازم العقل والنفس. كان البطل هاري هاللر، أو ذئب البوادي، كما يسمي نفسه، هشّا، متعبا، كئيبا، حذرا، غريبا، وحيدا، "منفصم الشخصية"، مليئا بالأسئلة والحيرة، ميالا إلى الانتحار، ثم هذه العلاقة الصدامية مع المحيط الخارجي الذي لم يستطع التأقلم معه لأنه يراه مفلسا من حيث القيم، مشيّئا ومريضا. تكشف الرواية بأبهة فاخرة عن الصدام الحاد بين بعض القيم والتوجهات التي شكلته، كما حصل للمعري، بين تصوف الشرق وحكمته ومادية الغرب وحداثته المأزومة، بين الروح والمال، بين الإنسان والبهيمة، بين النبل والوحشية التي تلازم العنصر البشري منذ القدم، وستجتمع هذه العناصر في ذات واحدة مليئة بالصخب والتردد: ذئب البوادي الذي يرغب في التخلص من الوحش الذي يرافقه في مجتمع دارويني، أو من هذه الحيوانات المفترسة التي تقطن في أعماقه منذ القدم، وذلك من أجل الوصول إلى نفسه، إلى حقيقته الفعلية، إلى تلك النقطة القصية التي يرغب في تحقيقها ككائن بشري له ما يميزه، ولو ظاهريا، أو اتفاقا، ومن ثمّ بلوغ المثل العليا التي ظلّ يحلم بها، بعيدا عن الوحش والقطيع. تأسست الرواية كلها على هذه الثنائيات الضدية المتواترة، ما أنتج عوالم داخلية متشظية ساهمت في تعميق الجانب المأساوي لشخصية هاري هاللر الذي بدا مهزوما في محيط مناوئ. كان مضطربا، يائسا، قريبا جدا من الموت الذي ظل يرافقه كمتكأ، أو كمنقذ من التناقضات والأسئلة التي لا تحتمل الأجوبة. لقد كان ضائعا في كون لا يعنيه البتة، كأنه رغب في التخلص منه ومن شوائبه، في أن يتبرأ من الحياة البهيمية لسلالته البشرية التي أرهقته: لقد كان يحارب طواحين الريح بمجموعة من الأفكار والقيم، مثل نبيّ لا كتاب له ولا أتباع. ثمّ هذه التأملات الفلسفية العميقة التي هيمنت على البطل طوال النص، بالاعتماد على طاقة شاعرية واضحة؟ لقد شكلت هذه الأجواء لوحدها عالما ساحرا من الرؤى التي ساهمت في ترقية الشخصية وتقويتها، ومن ثمّ إمكانية فهم الأسباب المنطقية لتمزقها في كون جارح، لا معنى له، من منظور البطل الذي ظل، في كامل الرواية، قلقا، متسائلا، متذبذبا، يائسا، ولا وجهة واضحة له في ما يشبه السديم العام. لقد كان تائها كالغريب في مفترق الطرق، أو كغيمة الصيف، لا هي إلى البر، ولا هي إلى البحر، بتعبير نجيب محفوظ. أخيرا: ماذا لو تحكم الفلاسفة في التقنيات السردية واهتموا بالأدب كجنس يمكن استثماره لنشر الفلسفة بطرق فنية أقل تجريدا وتعقيدا؟ لا بدّ أنهم سيكتبون روايات وقصصا وأشعارا راقية ستطيح بالمؤلفات الساذجة، وهي كثيرة جدا. الظاهر أننا كتّاب محظوظون أحيانا في سوق السرد، بقضه وقضيضه، وعلى الفلاسفة أن يتركونا بسلام، آمنين مطمئنين في بعض مستنقعاتنا الأدبية.