جاء النص كمدخل سيميولساني محصلة لتفاعلات الكاتب في جدله مع المحيط من تجارب وذكريات وعلائق اجتماعية تشكل المادة الخام لإبداعه بعيدة عن كل ما يمكن أن نلصقها بالسيرة الذاتية كما ذهب إلى ذلك ''رولان بارت''. وهنا أستحضر الكاتب الإنجليزي ''جراهام جرين'' الذي يرى أن المبدع يجب أن يقطع الحبل السري الذي يربطه بالتجربة ويتركه يختلط بأشياء كثيرة . فالذاكرة هنا خزانة نفسية تختزن الأشياء وتختزلها أو تفصّلها وتدلي بها عند الإقتضاء وخلال اعتصارها نرى الضباب والرماد والحرقة والوجع أو الصحو والتجليّ . جاءت الذكريات مبلّلة بالنسطالجية والحنينية في أكثر من فضاء ،حيث تعدد الأمكنة في قصص متفرّقة يلعب المتخيّل دور الريادة فتمرّ المعاني متحجّبة تتعثر في الملاءة تارة وأخرى تعلن السفور لتعانق لغة البوح العفيف تحمل أشكال الدلالة محرّرة ترضى المتلقي الذي يعجب من هاته الجمل القصيرة البرقية ، وبذلك ضمنت لنفسها مساحات هائلة من الحرية ، لغة مهذّبة راقية مشرقة شارحة لا منظّرة ساعد على ذلك رموز ثقافية تتخلّق في أرحام مساعدة تحتضنها في تراكم معرفي ما يسمى في الإبستمولوجيا بالإلتحام المعرفي كونه عناق للماضي واعتراف بالتراث الذي ليس موضوعاً في مخزن بل هو معجون في ثقافة القاص يمثِّل امتداداً لبعض الأشياء ولديه إحساس بذلك . فهو يعمل على تخليق السرد القصصي موزعة على أساس سرد موجز يستدعيه الظرف الحداثي في الزمن السريع . فعلى امتداد أربع وعشرين قصة قصيرة نلمس فضاء سرديا مفعما بالمعنى الثري و الرؤيا النافذة، فضلاً عن توظيف مقاسات بنيوية حكائية حداثية في فضاء المتن القصصي حيث تمحورت اللحظات الجمالية بين زمن مفتوح وآخر مغلق ولا غرابة أن نرى القاص يتلاعب بالأزمنة وعلاقتها بالأمكنة ببراعة فائقة ابستيمية . ولا غرابة أن يعمل على تقوية الدلالات واستدعاء مرجعيات فنية كونه يتوفر على الأدوات اللوجستيكية من أجل صناعة قصة فنية حداثية سيما وأن أعماله عرفت قصب السبق سواء في المغرب العربي أو مشرقه بحيث تنوعت بين رواية وقصة ونقد ودراسة . فالمجموعة هاته تقف على جينيالوجيا الأثر وتعمل على خلخلة السائد المتعارف المتوارث فهو – أي القاص – يشتغل دائما على حفريات عدّة فيقلب الدلالات المتواترة و المتوارثة ، ويمنح للفظ معنى آخر يجليه مقتضى السياق ويزينه بإيحاءات تدغدغ الشعور ، ثم تراه يجنح إلى التصريح و التلميح يغني عن الإفصاح إلى تفجير مدوّي عن طريق الصورة ومن ضمن مجموعته القصصية تبرز '' لوهران حكايتها الأخيرة '' وهنا أستحضر ما قاله يوسف ادريس الكاتب المصري من كونه كلما ذكر بطلا في قصة من قصصه إلاّ وانهال عليه القرّاء يسألونه هل هذا البطل هو أنت فعلاً، ففي قصة '' لوهران حكايتها الأخيرة '' ، البطل سليمان القادم من الجنوب والمهوس بالباهية حد النخاع هنا نقطة إلتقاء بينه وبين مصطفى سعيد بطل الطيب الصالح في روايته '' موسم الهجرة إلى الشمال '' ، ذلك الشخص الذي حمل وجعاً أولا بدائيًا في وهران يرتشف كؤوس الشاي عساها تقرّبه إلى الجنوب ''بشار'' من حيث أتى . هكذا فعل طه حسين في قصته ''الأيام" وهو طالب في الأزهر يرتشف كؤوس الشاي علها ترحل به إلى القرية وتخفف وجع الغربة . وسيلمان يستحضر أجواء حي الدبدابة الشعبي ببشار حيث تربى وترعرع فيه نرى القاص يتجوّل في شوارع الباهية ويستحضر الزمن الجميل لمّا كان طالبا في جامعتها ويعجب لهذا التغير الحاصل في كل شيء في الطرقات و الأزقة و الشوارع والسماء والماء أين أنغام وهبى وصابر و الشاعر الجوال خلوق لقد حلت أسواق الهواتف وامتلأت الأمكنة بالسيارات بعدما كانت تقتصر على واحدة أو اثنتين تظلا قابعتين في هدوء استبدل الآن بضجيج يقرع الآذان وأصوات تشق الأجواء . فالوقفة طللية للقاص نشتم من ورائها ألماً موجعاً لوجوه غادرت المكان طوعاً أو كرهاً كل إلى حال سبيله ، وهاته اللمسة الشعورية التصوفية نلمسها عند الكاتب المغربي عبد المجيد بن جلول في كتابه '' في الطفولة '' . هذا الأرستقراطي الذي عاش طفولته في انجلترا ولما عاد إلى بلده الأصلي المغرب أصدر زفرات تنم عن حنين للماضي . ف '' الذاكرة ورمادها '' مجموعة قصصية تمارس تداعي المعاني والمعارف . فالرمز متوفر بشكل مكثف فالرجل الذي ترجّل يحيلنا إلى أسماء رضي الله عنها فلقد ترك للمتلقي مسافة التأويل . ول ''وهران حكايتها الأخيرة واحدة من القصص التي تدعو إلى عدة إطلالات تاريخية وتراثية وثقافية ومعرفيّة مما يدل على أن القاص متمرّس واسع المدارك كثيف المعارف مهندس في وضع تصاميم للقصة الفنية الحديثة . ف '' الذاكرة ورمادها '' نموذج للتطور المتوهج الذي يعرفه فن القص . ويدرك السحر الملح الذي وصل إليه هذا النموذج الفني الذي يتناغم عبر مسافات المتعة و مقاسات الإرتباط ويلمس مفاتيح الولوج إلى عوالم الإنزياح فيعانق طروحات المدارس الحداثية في هذا الحقل الذي طالما وضعتة كشرط للقص الحداثي الرفيع المنفتح على أكثر من سؤال .