كان الكاتب والشاعر الأرجنتيني خوخي لويس بورخيس (1899 1986) محظوظا جدا بصديقه الشاعر الأمريكي ويليس بارنستون (1927) الذي كتب مذكراته الموسومة:"مع بورخيس، مساء عادي في بيونس آيرس" (2002)، وبالمترجم السوري الشاعر الدكتور عابد إسماعيل (1968)، أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة دمشق. ثلاثة شعراء وكتاب واحد: يا للمتعة. بورخيس وكاتب المذكرات والمترجم. يذكرني هذا الكتاب الراقي برامبو وزمن القتلة لهنري ميللر: عالم باذخ من الأخيلة والاستعارات والفلسفة والأساليب والقيم المعجمية والدلالية. هناك بورخيس الباروكي، الشاعر المتلألئ، الهلامي، البصير في عماه المضيء (1955)، وويليس بارنستون صاحب ديوان: أحلم بالصينية، الشاعر الذي يؤسس على النص الطيفي، الميتافيزيقي، أو شعرية الدفقة الأولى، كما يفعل موزارت في الشلالات السيمفونية، وهناك الشاعر السوري عابد إسماعيل، صاحب ديوان لن أكلم العاصفة، أو الشاعر الحزين، السديمي، صاحب العوالم المظلمة، الممتلئة بظلال الحياة. صدفة ممتعة جدا، وهبة من البارئ أن تساهم الأسماء الثلاثة في هذه التحفة الأدبية الجليلة التي نادرا ما نعثر عليها في أسواق الأدب. ثمة في هذا المؤلف تفاصيل مثيرة تخص الشاعر الكفيف، السيد بورخيس الذي كان لا يعرف نفسه جيدا، كما كان يحدث للقاص الروسي أنطوان تشيكوف، الحائر المشكاك، ذاك الذي لم يكن يؤمن بقدراته الإبداعية، رغم عبقريته الفذة وسطوة أساليبه. كيف كتب بورخيس، الغنوصي، الهرطوقي الذي لا حدود له، في هذا النظام المجهول من الكلمات، ومن العوالم المبتكرة، التي لم تكن لا أرضية محضة ولا سماويه محضة؟ كان بعض القراء يقولون عنه: الكاتب الذهني، الشاعر الميتافيزيقي، مخترع آلات الذاكرة، محلل أفلاك باسكال، الأكاديمي الساخر، مفكك أنظمة الإشارة التي يُرى فيها الكون كتجسيد للغة، مدمن الكتب المقدسة، المؤتمن، الحكيم، الهادئ، المتصالح مع نقاط الضعف الإنساني، مع عالم بلا ألوهة، الإمرسوني، العرفاني، الأرضي، اللامنتمي، ولكن، هناك بورخيس الإنسان البسيط الذي كتب في العراء، قريبا جدا من قارئه الذي ظل يصافحه أثناء الكتابة، وفي الشارع، مندهشا من شهرته التي لم يؤمن بها. " أقول للآخرين بأنني مريض ومتعب من متعة كوني بورخيس كلّ ليلة، ما زال لديّ قصائد لأكتب، كتبا لأقرأ، وأمكنة لأرى". يا لقوة العبارة وعمقها. يجب معرفة بعض حياته لإدراك هذا المغزى. كان الشاعر ابن محام وأستاذ في علم النفس وشاعر، وكانت والدته مترجمة. أمّا هو فقد كان مسؤولا عن المكتبة العامة في بيونس آيرس، مدافعا عن الفن من أجل الفن، خاصة بعد عودته من أسبانيا، ومناهضا، بشكل مفارق لتوجهه، لسلطة الرئيس خوان بيرون، كما صرح بذلك أمام جمعية الرسائل:" الدكتاتوريون يجلبون الظلم، الدكتاتوريون يجلبون العبودية، الدكتاتوريون يجلبون القسوة، والأبغض من ذلك أنهم يجلبون الحماقة"، قبل أن يقال ويعين في منصب مفتش دواجن، ثم يتقلد عدة مسؤوليات تباعا، إلى أن يصبح أستاذ الأدب في العاصمة الأرجنتينية، وفي عدة جامعات عالمية حيث قدّم محاضرات في الشعر والأدب والفلسفة والمسرح أمام آلاف المهتمين. لقد كان يأتي، بفعل التجربة التي شحذته، من أعماق نفسه ورؤاه الخاصة، من أحاسيسه التي شكلتها الرحلات والقراءات والتأملات، ومن الآفاق، أو من المستقبل، بتعبير الشاعر أدونيس. لقد كان هناك في "السماء، وفي تلك الأبراج الشاهقة ووفرة ملائكتها. ذاك هو المختبر الذي كان يشتغل فيه بورخيس، في الإسكندرية أو بيونس آيرس، رمزا للرجل الفقير على الأرض وقد وقع في مصيدة ظله الفلكي تحت السماء الشاسعة والمحايدة. وهنا يقوم هذا المفبرك والهرطوقي المطلق بحبك أفعاله وأسمائه بعضا ببعض"، كما قال ويليس بارنستون الذي رافقه في أغلب خطاه المترددة، والغامضة معا. ذلك ما نستنتجه من نصوصه المتناثرة، المتشظية، كما لو أنه نسجها من نثار الدلالات البعيدة، المتنافرة، المتضادة، من نظام من المضمرات المتراصة التي تجمعها خيوط باهتة إلى حد ما، متقطعة ومعقدة، أمّا ما يظهر في التجليات فليس سوى حطام مديد لا حدّ له. مع أن لهذا الحطام المشكل من الظلال وظيفة قاعدية لأنه جوهر ثابت في كتاباته: لعله النفس التائهة في ملكوت الفلسفة والمجردات: ما يشبه اللعنة الخالدة التي ظلت تلازمه. كان بورخيس ممزقا، غير مطمئن لما يكتبه، كما كان يتوق إلى رؤية وجهه، وكان يشعر أنه "ذاك الفاشل الذي تعوّد أن يشتكي من نفسه. لم يستطع أن يكون سعيدا...هكذا يصبح رمزا للمفارقة والتناقض. كإنسان خاص هو شخص يعيش وحيدا ويستمتع بتأملاته و"عاداته"، ويدّعي أنه لا يهتم بالموت، بل إنه يرحب به، حيث سيحرره من الحياة والآخرة معا. أمّا خوفه فأن تكون الآخرة حقيقية، وهذا يعني عذابا أبديا، طالما أنها ستكون كالحياة نفسها". كيف حدث ذلك؟ هناك شبه بينه وبين فرانز كافكا، بينه وبين همنغواي، وبينه وبين نيكوس كازانتزاكيس. ثمة مجاورة عجيبة تعكس المسافة الفاصلة ما بين التجلي والكمون، ما بين الحياة الاجتماعية الظاهرة والواقع الذاتي للكاتب القلق، المختلف، الكاتب الذي يعيش حالة من الرعب والموت، رغم نجاحه على المستوى الأدبي. هل كان هذا الأدب عقابا؟ قد يكون الأمر كذلك إن نحن راجعنا بعض مواقفه وتصريحاته. كان الشك هو المنتصر الوحيد، وهناك الألم الأعظم الذي عكسته مختلف الأسئلة التي ظلت تبحث عن معنى الزمن والحركة والأشياء والمثل. لقد عاش بعيدا جدا عن الراهن، وعن الحياة والعفوية. كان يبحث عن مأساته في البصيرة، وفي الفلسفة التي أبعدته عن نفسه. لكنه، بهذه التصورات المخيفة، أربك المحيط والقارئ وأضاء جزءا من ظلام الكتابة المكيّفة التي لا أسئلة لها، الكتابة التي ظلت متكئة على الأرائك الوثيرة. ألذلك قال عنه كاتب المذكرات ويليس بارنستون:" مع كلّ الغنى الذي اكتشفته في بيونس آيرس، ومع كلّ الأصدقاء، بدت الأرجنتين بلدا خاويا. خاوية، ولكن ليست "كالجبال الخاوية" التي ألهمت الصيني وان غوي خلوته، وصمته الشفاف العميق. كانت الأرجنتين خاوية. ذلك لأنّ بورخس لم يكن هناك"؟ أكرر هذه العبارة المثيرة التي تشبه سلسلة من النجوم: "كانت الأرجنتين خاوية. ذلك لأن بورخس لم يكن هناك". أجل. عندما يغيب بعض الكتاب تفقد المدن والبلدان نكهتها وتمتلئ بالصخب والذباب.