هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت به محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. يعد الكاتب الأرجنتيني الكفيف خورخي لويس بورخيس... من أبرز كتاب القرن العشرين، كما كان ناقدا وشاعرا مسموعا، وعاش بين 24 أوت 1899 حتى 14 جوان 1986، أي أنه مر على وفاته 22 عاما. ويمكن القول: إن بورخيس... أثرى الفكر العالمي... بأعمال أدبية، رسخت كونيتها من خلال خصوصياتها المحلية، وتلاقحها مع الثقافة العالمية... الإسبانية والإنكليزية والعربية. ف "بورخيس" ومعه "غارسيا ماركيز"... يعتبران من رواد الواقعية السحرية في أميركا الجنوبية، ولولا هذان الكاتبان الكبيران... ما كنا لننعم بالأسفار القصصية والروائية المستلهمة من سراديب الذاكرة الشعبية الأرجنتينية والكولومبية، والجنوب - أميركية بشكل عام. ولد بورخيس في مدينة بوينس آيرس في 24 أوت 1899، واسمه الحقيقي هو: "خورخي فرانسيسكو لويس بورخيس اسيفيدو"، وكان يعاني ضعفا شديدا في بصره. بعد الحرب العالمية الأولى... استوطنت عائلته لمدة "3" أعوام بمدينة لوكانو، ثم جنيف، حيث تابع دراسته في المرحلة الثانوية، ثم بعد هذا في إسبانيا بمدن: برشلونة، "مايوركا"، أشبيلية ومدريد. كان بورخيس... عضوا في حركة أدبية طليعية تدعى "ultraiste"... ونشر أول أشعاره في مجلة "كريسبيا"، وكان متأثرا بالشاعر و«الت وايتمان"، وكان عنوان قصيدته الأولى "نشيد البحر". في العام 1921 ... عاد بورخيس مع أسرته إلى بوينس آيرس، محضرا معه الأفكار التطرفية الأدبية، وبدأ مشواره ككاتب، بنشر قصائد ومقالات في مجلات أدبية. كانت أولى مجموعات بورخيس الشعرية تحت عنوان "حماس في بوينس آيرس" في العام 1923، وساهم بورخيس في مجلة مارتين نيرو لحركة "مواس المقدمة"، التي كانت تتبنى أسلوب "الفن لأجل الفن"، على النقيض من مجموعة "بيدو"، التي كانت تحمل أهدافا سياسية. كما ساهم في إنشاء مجلات "برسما" "1921 - 1923"، و«بروا" "1922 - 1926" و«سور" التي أنشئت في العام 1931، والتي أصبحت - فيما بعد - أهم مجلة أدبية في الأرجنتين. وفي العام 1933 ... عين بورخيس محررا في الملحق الثقافي في جريدة "كريتيكا" التي نشرت فيما بعد مقاطع من "تاريخ العار العالمي"، جاءت هذه المقاطع على شكل متوسط... بين التخيلية والواقعية، حيث استخدم أسلوب الكتابة التخيلي في سرد أحداث حقيقية، وفي السنوات اللاحقة عمل بورخيس مستشارا أدبيا لدار نشر "إمبس إديترز"، وكتب عمودا أسبوعيا في صحيفة "إل هوجار". في العام 1938 ... كان بورخيس على موعد مع صدمة قاسية، إذ توفي والده، فترك ذلك في نفسه ألما كبيرا، وبعدها بأيام قليلة... أصيب بجرح غائر في رأسه في حادث، وكاد أن يفارق خلال علاجه بسبب تقيح الدم، وجاءت قصته القصيرة "الجنوب" تعبيرا عن هذه الحادثة. وأثناء تعافيه من الإصابة... بدأ الكتابة بأسلوب... أصبح مشهورا به، وظهرت أول مجموعة قصصية له في العام 1941 بعنوان "حدائق الممرات المتشعبة"، تضمنت المجموعة قصة "إل سور"، وهي قطعة حوت بعضا من عناصر السيرة الذاتية، بما في ذلك الحادث الذي تعرض له. وعلى الرغم من تقبل الجمهور لهذه المجموعة... فإنها لم تنجح في حصد الجوائز الأدبية المتوقعة لها. بعد ذلك بسنوات... فقد بورخيس بصره نهائيا، بعدما كان ضعيفا جدا، فأصبح غير قادر على إعالة نفسه ككاتب، فبدأ عملا جديدا كمحاضر عام، وبالرغم من وجود بعض الاضطهاد السياسي في عصره، إلا أنه تمكن من إثبات ذاته، وكان ناجحا إلى حد معقول، وأخذت شهرته تزداد بين الناس، حتى عين في منصب رئيس جمعية الكتاب الأرجنتين "1950 - 1953"، وأستاذا للإنكليزية والأدب الأميركي "1950 - 1955"، وتم إنتاج قصته القصيرة "إما زونز" في فيلم باسم "أيام الغضب" في العام 1954، وفي هذه الفترة... بدأ بورخيس في كتابة المسرحيات. وفي العام 1955، بعد قيام مبادرة أوكامبو... عين بورخيس من قبل الحكومة العسكرية المناهضة للبارونية... رئيسا للمكتبة العامة. وفي العام التالي... حصل بورخيس على الجائزة الوطنية للأدب، وعلى أول دكتوراه فخرية من جامعة كوبو، ثم عين أستاذا للأدب في جامعة بوينس آيرس، ومناصب أخرى موقتة في جامعات عدة. كما منحته ملكة المملكة المتحدة إليزابيث الثانية... وسام الإمبراطورية البريطانية، حصل على عشرات الأوسمة والنياشين والتكريمات بعد ذلك... مثل: وسام جوقة الشرف الفرنسية وجائزة كيرفانتس في العام 1967 ... بدأ بورخيس تعاونا مع المترجم الأميركي نورمان توماس داجيوفاني، والذي يرجع له الفضل في شهرته بين متحدثي الإنكليزية، كما تابع نشر الكتب مثل: "البدايات الخيالية" و«الرمل"، وألقى مئات المحاضرات، والتي جمع بعضها في مجلدات مثل مجلد "سبع ليالي".