يأتي أحدهما إلى الآخر. الشعر يعبُر باستمرار، وهو الذي لا يقيم أبدا. الشاعر يصادف أشياء كثيرة: ذاكرة، حالة، محطات مبددة. الشعر لا يكتفي بالعبور فقط، بل يمتحن الشاعر في قدراته. الشاعر يخيب أحيانا في امتحان القدرة. الشعر كله قوة وامتلاء وثراء، والشاعر كله ضعف وخواء وفقر، لكن مع حالة العبور يبدأ شيء ما يمتلئ. داخل حالة التقاطع تحدث أشياء تربك الشعر والشاعر معا. أحيانا يجد الشعر نفسه محصورا في لغة وفي شكل وفي أسلوب، مع أن طبيعته ألا يقع داخل هذه الأشياء. إنه يتشكل في أكثر من لغة ومصاب باللانهائي الدائم في الصور. لكن الشاعر بحكم الثقافة المتحكمة يسجن الشعر في شكل أو في أسلوب، فليس ذاك هو الشعر الذي نراه في لغة الشاعر، بل هو الصفة التي أعطاها الشاعر له. الثقافة توحي للشاعر عكس ما توحي للشعر. في الشعر دائما هناك قدرة على التجاوز. الشعر لا يؤمن بأخلاط الثقافة وثقلها. تأتيه الثقافة بكل المسميات جاهزة، ولكنه يأبى إلا أن يسمي ويعيد التسمية. بينما حينما تأتي الثقافة إلى الشاعر تقيده، إلا إذا جعل من الشعر طبيعته الأولى. حالة من الإيمان بهذه الطبيعة. يمكن أن نقول بأن في الشعر الجاهلي صفة الشعر الذي لا يزال بريا ومتوحشا: اللغة – التجربة – الصدق – السيولة والنقاد زادوا الفحولة. ولكن حينما حلت الثقافة في الوسط الأدبي بدأت الانهيارات. كان شعر حسان من الفحول فلما دخل شعره الإسلام لان. هذه الليونة من إملاء الثقافة التي أسست للغة جديدة، كأنه ضاع من بهاء الشعر الكثير. بداهة الأصمعي هي بداهة معاصرة، شعور مّا بأن الشعر كان يصادف حسان في الجاهلية ولم يصادفه في الإسلام. كل ثقافة وتملك طرق تحايلها. هناك ثقافة يقوى فيها الشاعر مع الشعر في لحظة الكتابة. يمكن أن نتحدث عن جلجامش وعن بعض أنواع شعر المراثي والغزل وشعر اللذة. بالمناسبة يمثل شعر أبي نواس أكثر النماذج تماهيا مع شعره، هذا إحساس تعطيه التجربة وتعطيه اللغة أيضا. يمكن الاستئناس بشعراء آخرين وحتى بالنسبة للشاعر الواحد تختلف عليه الحالات، أنا أتحدث عن القدرة الحقيقية وليس عن الاستثناءات والمناسبات التي تلجئ الشاعر إلى انتحال الصفة، مثل مدائح المتنبي أو أبي تمام. فهي أغراض جاءت في سياقات مختلفة تعني الشاعر في لحظة من لحظات حياته. ولكني معني أنا الآن بالطبيعة الحقيقية للشاعر التي تتوهج في الحالات الخاصة التي يتقاطع فيها الشعر بالشاعر. هناك ثقافة يبتعد فيها الشعر ويترك الشاعر كصفة يكابد أوهاق اللغة ومتاعب الشكل. مثلا شعر الزخرفة اللفظية والشعر التقليدي المحافظ وشعر المناسبات والغنائم. هنا للأسف لن نجد الشعر بل نجد الصفة للقائل داخل لغة لا يقيم فيها الشعر مطلقا وداخل شكل أو أشكال لا علاقة لها بطبيعة الشعر. الفرح بالصفات هي أقصى حالات الشاعر. لا شك أن قيد الصفة يكمن في اليقين الذي يسيج الكائن ويحوله إلى عبد للصفة بدل البحث عن الذات في أكثر من حالة أو لكي يتلبس جميع الصفات. هناك ثقافة يتوتر فيها حس المبادلة بحسب جوهرية التحولات التي تحدث داخلها، وكلما كانت تؤمن بالتحول كلما ظل الشعر يقترب ويبتعد. في عالمنا العربي نجد أمثلة لذلك وبخاصة في الشعر المعاصر. هذه أقوى الثقافات خطرا على الشعر، ثقافة المخاتلة التي زادها السوق ذكاء. مع السوق صار الشعر في أكثر من لباس، حالة الثقافة لما تطغى على الطبيعة. تسويق اللباس هو الأصعب على الشعر، لكن قوته الحقيقية تعطيه حدسا دائما بالزيف. يجد الشعر نفسه في حالات هاربة يلفها الصمت والابتعاد عن السوق حيث الصخب والضجيج. القارئ الضيف يدرك وهو يبتعد مسافة هذا الشعر الذي يظل هاربا وباحثا عن الطبيعة الحقيقية، القارئ الذي يتوهج فيه الشعر حقيقة وليس القارئ الذي ينام خلال القراءة أو يمارس حقه في الابتسامة والسعادة. الذي يضايق الشعر هو ما يؤمن به الشاعر من اعتقادات جمالية أو فنية. يود الشعر أن يقول له: كُفَّ عن الاعتقاد، اذهب إلى الشعر فقط، بينما الشاعر يذهب إلى اعتقاده الخاص. الاعتقادات في الشعر معقدة وصعبة. فهي المسؤولة عن كل الحبر الذي يسيل في الغفلة وبمقدار كبير من دون فائدة. كتابات كثيرة تتحدث عن هذه الاعتقادات وكأنها قواعد، نتذكر مثلا كتاب قواعد الشعر لثعلب، لم تصبح هناك قواعد للشعر، حتى في زمان الناقد كان الشعراء يمارسون حقهم في الحرية أو التحرر المطلق من كل قيد. الاعتقاد بأن هناك قواعد يمكن أن تضبط الكتابة الشعرية هو تعبير عن حماقة فكرية لا توصف، ولكن هناك بعض الاستثناءات حينما يتشكل وعي مختلف ببعض الصفات التي ينطوي عليها الشعر، المخيلة مثلا، وما كتبه حازم القرطاجني يدخل في هذا الباب، مجرد قراءة للنص الشعري الذي يعتمد على الخيال. الشعر لا يعرف أسبقية الأشياء، هو البداية. كل صورة وكل متخيل بداية. حس البداية يغلب على الشعر بينما حس الاكتمال يغلب على بعض الشعراء. بعضهم يكتب وكأنه انتهى، وهذا مخالف لطبيعة الشعر. حس النهاية يوفره بيت الفايسبوك مثلا. الشاعر الصفة يكتب ثم ينشر وقد انتهى من كل شيء. الشعر لا ينتهي بهذه الطريقة. كثير من الشعراء لهم تقاليدهم في الكتابة ينزعون نحو حالات من الهروب والصمت ويبحثون عن عزلات خاصة لأن البداية تشغلهم كثيرا أو يملكون حس الشعر الذي يضعهم في البدايات دائما، كأنما يقف أمام صباح جديد لأول مرة أو أمام مشهد مألوف لا يراه إلا بداية. حس الاكتمال لا توفره الطبيعة. أنانية الشاعر واعتقاده البائس يقولان بالاكتمال واليقين والنهاية والحد. الذي يفضح سيرة الشاعر هو الشعر، حيث يظل هاربا من القيود والأشكال والتصورات. وكلما ازداد يقين الشاعر ازداد شك الشعر. وفي كل الحالات نخطئ الشعر عند هذا الشاعر المكتمل. حس المصادفة في الشعرالذي يستوطن البساطة واللغة التي تؤخذ من السطح. حيث التجربة التي تستعيد حواسها من الطبيعة ومن العالم. يقيم الشعر في التحول والمتربص حيث إمكان قول العالم بطريقة أخرى. الشعر يقيم حيث يظل الشاعر كالظل ليس له قرار، يتغير بتغير الأحوال ويقيم في النفي دائما كما قال النفري.