لقد استقطب اغتيال الصحفي جمال خاشقجي اهتمام المجتمع الدولي بكامل أطيافه السياسية الإعلامية و الاقتصادية , كونه سعوديا من عائلة مرموقة وثيقة العلاقة بالأسرة المالكة , و صحفيا بارزا , إضافة إلى الظروف المأساوية التي أحاطت باختفائه و اغتياله داخل قنصلية بلاده في اسطنبول التركية. وينتمي الضحية إلى عائلة من أصول تركية استقرت في الجزيرة العربية منذ العهد العثماني , و استطاع الكثير من أفرادها تقلد مناصب سامية في أجهزة الدولة السياسية والدينية , و تمكن بعضهم من البروز في عالم الأعمال كعدنان خاشقجي الملياردير الذي اشتهر بتجارة السلاح في الشرق الأوسط خلال سبعينيات القرن الماضي , و منهم الضحية جمال خاشقجي الذي تخرج من جامعة أنديانا الأمريكية و بدأ مشواره الصحفي في منتصف الثمانينيات بصحيفة *سعودي غازيت * الإنجليزية, و عمل مراسلا لعدد من الصحف العربية اليومية و الأسبوعية و منها *الشرق الأوسط* على مدى 13عاما اشتهر خلالها بتغطياته الميدانية للحرب الأفغانية ضد السوفيات, و بمقابلاته مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في السودان و في أفغانستان.و هو ما أكسبه شهرة أهلته لتقلد منصب نائب رئيس تحرير جريدة *عرب نيوز* و بعدها رئاسة تحرير جريدة *الوطن*, و هو المنصب الذي أُقيل منه شهرين فقط بعد تعيينه , و حينها اختاره الأمير تركي الفيصل (رئيس الاستخبارات العامة السعودية الأسبق) مستشارا إعلاميا حين كان سفيرا لبلاده في لندن و واشنطن إلى غاية 2007 , و هي السنة التي عاد خلالها خاشقجي إلى رئاسة تحرير جريدة الوطن التي وظفها الجناح الإصلاحي في الحكم للحد من نفوذ هيئة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المدعومة من وزارة الداخلية آنذاك . و في صيف 2008 رافق خاشقجي الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في زيارته إلى لندن، حيث قدمه الملك في حفل الاستقبال بقصر بكنغهام إلى ملكة بريطانيا على أنه *أهم صحفي سعودي*. غير أن هذا الوصف لم يشفع له لدى التيار الديني المتشدد الذي أرغمه على الاستقالة من جريدة الوطن اثر صدور مقال بها ينتقد التيار السلفي سنة 2010 , كما أن خاشقجي لم يتمكن من
الضحية يرفض وصفه بالمعارض إطلاق قناة *العرب* التي كلفه الملياردير السعودي الوليد بن طلال آل سعود بتأسيسها , و توقفت بعد يوم واحد من عملها سنة 2015. و مع ذلك واصل خاشقجي نشر مقالاته في صحيفة *الحياة* مؤيدا رؤية المملكة 2030 *التي اقترحها الأمير محمد بن سلمان، مدافعا عن سياسة المملكة الخارجية بما فيها شنها الحرب على اليمن , إلى درجة وصفه بالمحلل السياسي *المقرب من السلطة* من طرف القنوات و مراكز الأبحاث التي كانت تستضيفه .و في نفس الوقت استمر خاشقجي في الدفاع عن الإخوان المسلمين و الدعوة لدعم ثورات الربيع العربي , محذرا بلاده من جهة أخرى من مسايرة سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد انتخابه رئيسا في يناير 2017. و هي المواقف التي اضطرت خارجية المملكة السعودية إلى إصدار بيان نفت فيه علاقة خاشقجي بالحكومة، و أكدت *إن آراءه تعبر عن وجهة نظره الشخصية فقط*.لتسوء بعد ذلك علاقة خاشقجي بسلطات بلاده إلى درجة منعه من الكتابة والتغريد لمدة تسعة أشهر, كما أن المقالات التي نشرها في صحيفة *الحياة* بعد هذا الصمت الإجباري لم ترق كثيرا للسلطات، فقرر ناشر الصحيفة توقيف خاشقجي عن الكتابة نهائيا. وحين رأى خاشقجي حملات اعتقال طالت شخصيات دينية واجتماعية وثقافية، ومن بينهم أصدقاء له، قرر في سبتمبر 2017 مغادرة السعودية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية.و منها راح ينشر مقالات بصحيفة واشنطن بوست ينتقد فيها سياسة تكميم الأفواه واعتقال كل من له رأي مخالف في المملكة السعودية .و مما قاله في أحد مقالاته حول مغادرته وطنه:*تركتُ ورائي بيتي وأسرتي وعملي، وأنا الآن أرفع صوتي، لأن التزام الصمت خذلان لمن يعاني خلف القضبان.. أنا الآن في موضع القادر على الحديث بينما كثيرون لا يستطيعون*. و بينما تستثمر سلطات بلاده الملايير لتسويق سياساتها الخارجية و الترويج لأجندة ولي العهد يكتب خاشقجي في أعرق الصحف الأميركية والغربية ليفند بعض تلك السياسات، و يثني على البعض الآخر, و يرفض وصفه بالمعارض لهذه السلطات.و من أمثلة ذلك ما ورد في مقال مشترك مع روبرت لايسي بصحيفة *ذي غارديان* البريطانية في مارس 2017: *بالنسبة لبرنامج
الجريمة لا تقبل التبرير الإصلاح الداخلي فإن ولي العهد يستحق الثناء*، لكنهما أشارا إلى أن الأمير الشاب *لم يشجع ولم يسمح بأي نقاش في السعودية حول طبيعة التغييرات*. كما أشار المقال إلى أن ولي العهد *ينقل البلاد من التطرف الديني ,إلى نسخته الخاصة من التطرف المبنية على وجوب قبولكم إصلاحي بدون أي تشاور، مصحوبا باعتقالات واختفاء منتقديه*. جمال خاشقجي الذي (كان) يحظى بمتابعة حوالي مليوني شخص على مواقع التواصل الاجتماعي , انتقد أيضا احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض وإعلانه منها تقديم استقالة حكومته، وكتب بهذا الخصوص مقالا يوم 13 نوفمبر 2017 بعنوان *السعودية تثير فوضى كاملة في لبنان*. و في آخر مقال كتبه الصحفي السعودي قبل اختفائه داخل قنصلية بلاده باسطنبول في تركيا يوم 2 أكتوبر الماضي , و نشرته صحيفة واشنطن بوست بعد اسبوعين , تحدث عن وضع حرية التعبير في العالم العربي ؟ فلعل جمال خاشقجي كان أحد ضحايا حرية التعبير في العالم العربي التي مارسها - رغم العوائق -كلما سنحت له الفرص بذلك غير مبال بالخطر المحدق به .فهل ما كتبه هذا الصحفي عن بلده و عن حكام بلده , ما يبرر ما حدث له ؟ و إذا كان ولي العهد السعودي نفسه اعترف بأن : *الحادث بشع و غير مبرر تماما*, فكيف يمكن أن يكون لحادث كهذا أسباب يقبلها العقل السليم ؟ و لأن الجريمة لا تقبل التبرير , فقد كانت تداعياتها اسرع و اوسع مما توقع مدبروها و منفذوها , إذ ما من دولة أو منظمة حقوقية أو هيئة أممية معنية بحقوق الإنسان , او نشطاء فرادى و جماعات , و ما من وسيلة إعلام أو موقع نواصل اجتماعي , إلا و كان لها موقف و متابعة لهذه القضية منذ الختفاء الصحافي يوم 2أكتوبر و إلى غاية الآن, و ستستمر هذه التداعيات, ما لم يقتنع الرأي العام, بأن جميع من كان له ضلع في هذه الجريمة قد نالوا العقاب المستحق , كما أن ضغوط الدول على المملكة السعودية او دعمها ستتواصل بذرائع مختلفة ظاهرها الدفاع عن حقوق الإنسان و عن الصحافة , أو التضامن مع الأشقاء ,و باطنها بالنسبة للجميع جني اكبر قدر من المنافع من دولة بترولية تمر بأزمة حرجة, إذ ليس هناك من موقف مجاني إذا استثنينا الدول التي نأت بنفسها عن هذه القضية .