سنوات عدة لم أستمتع بمشاهدة عروض مسرحية للفرق الهاوية الجزائرية التي تحمل نكهة خاصة ؛لكن شاءت الصدفة في مهرجان وجدة لدورته (6) أن نشاهد عملا لتعاونية فن الخشبة لمدينة سيدي بلعباس. عمل مونودرامي تحت عنوان (أنا و السطح)كتابة و إخراج» محمد الشواط « الذي تمرس على الكتابة الموندرامية رفقة الفنان» قندسي بومدين «. بحيث يحاول أن يعكس الواقع الاجتماعي والمعيشي الحيّ على المسرح ؛وإن كان المسرح ليس هو الواقع في تجلياته الفيزيائية . ولكن المسرح الجزائري من خصائصه أنه يستند على الوقائع الآنية والأحداث الواقعية ؛ وإن كانت بعض الأعمال تحاول ترسيخ الترميز وتوظيف الإشارات والرموز وليس الرمزية كاتجاه إبداعي. يظل العرض كاشفا واقعيته ؛ وهناك عروض تغرق نفسها في واقعية الواقعية ؛ مما تتيه في المحلية وتتلخبط أثناء خروجها من فضائها الخاص. وهذا ما وقع لعرض « أنا والسطح»، بحيث حاول الممثل الشاب محمد بن رمضان استنزاف كل طاقته وقدراته من أجل خلق تواصل فعال بين العرض و المتلقي ، وإقحام بعض الإشارات ذات بعْد خاص، أكيد لا وجود لها في النص الأصلي كشباب الزلط، الرقية....، وإن كان العرض فعلا حاول أن يحقق تواصلا معه جمهور وإن كان قليل العدد؛ فذاك التواصل نتيجة عاملين أولهما سياسي: محاولة التواصل الحميمي بين الشعب الجزائري المغربي؛ وهذا تجلى قويا في المقابلات الإفريقية مؤخرا، والعامل الثاني التركيب الدرامي للحكايات؛ بطريقة جد ذكية. بحيث تم سردها انطلاقا من ملابس الشخصيات المنشورة فوق السطح؛ وهذا توظيف دلالي عميق جدا ؛ ساهم في بناء سينوغرافيا العَرض بجمالية خاصة رغم بساطتها. وتحكمت في حركية وتموقعات الممثل والتلاعب بالإيقاع المسرحي، حسب قوة كل حكاية .كل حكاية تكشف عن واقع الشريحة الاجتماعية لمجتمع سيدي بلعباس .والسؤال الذي يطرح نفسه بعْد انتهاء العرض هل السطح يتركب إلا من البسطاء و المهمشين ( فقط) ؟، أليس هناك أغنياء بورجوازيون، رجال السلطة أو مسؤولين لهم وعليهم حكايا ؟، لأن السطح كسطح يبدو ظاهريا كأيقونة فوق الركح، من خلال الغسيل المنشور؛ لكن الوجه الحقيقي هو ( الواقع) الذي تم نشر غسيله بشكل سطحي دونما تعمق في حقيقة من أنتج تلك الحكايات ؛ وإن كانت هنالك إشارة حول ماهية تحسين الوضعية ،من خلال اللعب بأصابع اليدين ( هاذو يبغو هاذو... هاذو وهاذوا يتآمروا على هذوا ...هذوا ضد هذوا.....الله يخلينا هذوا وهذوا) ، كإشارة إما للمسؤولين أو الأحزاب.. اللوبيات، العصابات التي وردت في سياق حكاية الشخص ( الزاي) حول التعليم ؛ والتي تقمصها الممثل ،ذاك القاطن في السطح والذي يروي حكاية واقعه ، كاشفا أنه كان بطلا معروفا . ومن خلال قميصه الرياضي الأخضر والحامل لرقم (3) ، يتبين ضمنيا أنه كان ضمن فريق اتحاد سيدي بلعباس لكرة القدم ، ولكن لعفته و أنفته ، الزمان بقساوته غدر به ؛ مما ارتمى في ركن من أركان أحد السطوح؛ وهذه مأساة العَديد من الرياضيين والمبدعين الشرفاء في الوطن العربي؛ وليس في سيدي بلعباس وحدها رغم أنه تعلم؛ ونال قسطا من الدراسة ؛ والتي توضحها حكاية تكشف عن واقع التعليم الطبقي حسب جغرافية المنطقة؛ هنا كان الإلقاء مضطربا بحيث حاول تغيير الإيقاع الصوتي؛ فانخرط في لغة المخمرين السكارى؛ وأسلوب هذا الإلقاء يتكرر في بعض الحكايا ؛ وتلك مسؤولية الإخراج، وليس للممثل محمد بن رمضان، الذي بدل أقسى جهده في تلوين الخطاب والإلقاء لكل شخصية على حدة بدء من حليمة الشوافة ؛ وإن كان لباسها يوحي لإحدى الراقصات؛ ولكن باقي الألبسة لها علائق وطيدة بشخصيتها كالمعطف بالمقاوم ( عمي سعيد) الذي لم ينل حقه ونصيبه من الثورة ؛ كباقي المستفيدين والذين لم يقاوموا الاستعمار.فظل يصرخ باحثا عن إنصافه ؟ مرورا برباطة العنق ،كإحالة لعمي الطاهر، الذي يتقدم في كل دورة للانتخابات . ولم يفرح بفوز ولو مرة واحدة ؛ رغم تبذيره وصرفه لمئات وآلاف الدينارات على شباب الحي ؟ ، أما « الجلباب» فكان إحالة طبيعية للفقيه « عمي علي» صاحب الرقية الشرعية. الذي اعتقل ثم سجن وبعدها أصيب بجنون ؛ بعْدما توفيت فتاة على يديه ، محاولا إخراج الجن من جسدها . ! وحسب ما أذكر أن هذا الحدث وقع سنة 2016 بسيدي بلعباس فعلا لسيدة في أواسط العقد الرابع ماتت في المستشفى؛ ففتح تحقيق بعد وجود علامات وكمدات وضرب مبرح على جسدها. فهاته الحكاية كانت من أقوى حكايا سطح سيدي بلعباس والتي تقابلها حكاية عمي بوعلام الذي تم توظيف العباية/ الدراعية / الرزة، كإحالة أنه من شيوخ ( القصبة/الأغنية البدوية) الذي تعامل مع أغلب شيوخ سيدي بلعباس بدءا من الشيخة حبيبة والشيخة ريتمي والجنية ....؛في الأعراس والحفلات وغيرها لكنه لم ينل حظه ؛ وظل ممنوعا من الظهور؟، مرورا بشخصية غامضة لها علاقة ب « الصاك» حامل للأمتعة الرياضية) المنشور في السطح . فكل ما هو معروف عنه يعتقل باستمرار؛ كأن السجن مكان للفسحة عنده ، فهل الصاك إحالة كتاجر للمخدرات أم الخمور أم ممارسة العنف...؟ ، فالمسرحية لم توضح ذلك .هنا تظهر حكاية المواطن السلبيالعاطل، - البطال- الذي يعيش اللامبالاة والاستسلام معتبرا أن الوضع طبيعي ؛ وذلك من خلال ترديده ( الحمد لله /الدعوة راها رايحة) تجاه كل ما يقع من أحداث. لكن الإشكالية مرة أخرى تكمن في الإلقاء هل ذاك المواطن عادي أم مخمور؟ ولكن المثقف يدعو لليقظة والاستيقاظ بنوع من الهيسترية مهرولا بين الأزقة والشوارع؛ مما نسمع بشكل مفاجئ أغنية « ياويح من طاح في البير وصعاب عليه طلوعو...»، كإشارة أن الوضعية إلى أن الاجتماعية للشريحة المهمشة والفقيرة والبسيطة؛ لن تتبدل وستزداد تفاقما؛ هنا سلبية العرض تتجلى ! وفي هذا السياق تأتي مكالمة هاتفية مجهولة للمقيم في ( السطح) بأن ( السطح ) سيهدم وسيرحل للمجهول؛ لتزداد سلبية الواقع المجتمعي .فهذا الخبر وإن حاول الممثل التفاعل معه لحَد الاندماج الكلي؛ لكن طاقته استنزفت وظهر نوع من الفتور وشبه عياء؛ وله عذره بحكم صعوبة التشخيص ( المونودرامي) والإخراج لم يترك مساحات بيضاء كتقنية لكي يتنفس الممثل، وإن كانت هناك مقاطع غنائية ؛ ولكنها مرتبطة بالفعل الدرامي؛ الذي فرض التعامل معها حركيا ؛ وليس استراحة . وفي إطار المقاطع الغنائية؛ أعتقد بأن إقحام الموسيقى الكناوية ( سيدي حمو) بمثابة حيرة النص ومخرجه من النهاية؛ بمعنى كيف يمكن إنهاء العرض ؛ لأن المقطع لم تصاحبه الإضاءة الحمراء لتحقيق الترابط الجمالي والفكري بالموسيقى؛ وجذبة الممثل التي كانت بشكل مفاجئ وبالأحرى بشكل عفوي، وهو يحمل الشخصيات، الملابس على كتفيه لم يتضح مدى أهمية تلك الجذبة الموسيقى هل هي إشارة لبقاء الاستعباد أم الانعتاق منه ؟ ومهما حاولنا ملامسة بعض الهفوات أو النقائص الجمالية والفكرية لمسرحية ( أنا والسطح) يبقى عملا له نكهته الخالصة من حيث تفعيل بانورامي لواقع الاجتماعي لفضاء سيدي بلعباس الذي هو جزء من الوطن العربي؛ وإن كان العمل غارقا في محليته .