« دبّري رأسَك».. هكذا يواجه مسؤول متنور، على مقربة من عيد المرأة، امرأة منقبة متلحفة فقيرة تشكو إليه حالتها وأولادها وهم يعيشون في كهف من المكابدات اللامتناهية التي ليس آخرها الحق في السكن و الصحة والتعليم وغيرها كثير من الحقوق الثانوية التي تختفي خلف جدار المطالب الأساسية في عالم يشهد تحولات جذرية على مختلف بنيات الخطابات التحررية وما تحمله من رهانات فكرية فلسفية وثقافية في صورتها الجديدة المُحيّنة؟،هل هذا الردّ هو نموذج لتفكير المسؤول المتعنت أو هو نموذج التفكير السلطوي الذكوري الذي يعكس طبقات متراكمة من التصورات التقليدية عن المرأة، و الذي طالما أٌلصِق به ما فعله الرجل طوال تاريخه الجندري تجاه المرأة و ما لم يفعله كذلك؟ لم تكن المرأة في يوم من الأيام مجرد قصيدة، كما لم تكن مجرد بطلة عظيمة في رواية تاريخية عظيمة كالأم مثلا. وهي بالتأكيد ليست نصا قابلا للتأويل أو منظومة مستعدة للاندراج في رؤية مسبقة، و هي ليست نزعة فكرية أو تقيّة إيديولوجية أو تصورا طوباويا أو نسقا مغلقا قابلا للتفكيك و إعادة البناء بما يحقق هدف المتعاليات بكل أنواعها، السياسية منها و الإيديولوجية و الفلسفية، بما فيها المتعاليات تلك التي تتصور فيها المرأة، و هي تعيش حلم التحرّر بوصفه موضة مستوردة، أنها كذلك أو جزءا من ذلك، أو شرطا ضروريا للوصول إلى ذلك. فما الفرق إذًا بين السيدة عائشة أم المؤمنين و بين سيمون دي بوفوار؟ و ما وجه القرابة بين الخنساء و بين أخت غريغور سامسا في رواية «المسخ» لكافكا؟ ثمة فرق شاسع بين الطرح الحامل لفكرة المرأة بوصفها أداة نضال للوصول إلى قناعة ما من القناعات السابقة، وبين أن تكون المرأة متحررة، بدءا، من الأسيجة الدوغمائية التي تنتجها هذه القناعات التي حصرتها فيها النِضالات الفوقية للمجتمعات الغربية بوصفها مُنتِجا حصريا للفكر التحرري، وهي تحاول أن تصل إلى نهاية التاريخ بوقود ما كَانَتْهُ المرأة خلال مسيرتها المُرهِقة، وهي تعبر سنوات طويلة من مكابدات معركةِ قروسطيات الانحطاطِ ومعركة قروسطية الحداثةِ و معركة قروسطيات ما بعد الحداثةِ في مجتمعات غربية متمركزة بدت لغيرها من المجتمعات الأخرى المتخلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، و كأنها مخلوق جديد ينزل لتوّه من كوكب جديد، كوكب الحلم الصارخ بتحرير نصف العالم من خلال تحرير نماذج نادرة منه في خضم معركة تريد أن تجعل من الإنسان ذاته جسرا للعبور على ظهر الإنسان في صورته الأضعف والأجمل إلى مفازات تبدو فيها الحرية وكأنها معادل موضوعي للمساواة بين الذات المُهَيمِنَة والذات المهيمن عليها. كيف تقرأ الإنسانية مسيرة الذات المُهيْمَنِ عليها، وهي ترى أن الإنسانية نفسها من أنتجت معايير الهيمنة وحسابات حركاتها ومآلاتها في فترات تاريخيةلم تكن فيها المرأة، وهي تقوم بدور المرأة المتحررة، أكثر من أداة لتحقيق الحرية، ولكن لغايات وأهداف أخرى لمجتمعات أخرى ولرجال آخرين ولنساء أخريات؟،ما الفائدة من أن تتحرر الأيقونة على حساب ما تخفيه من نماذج ليست قابلة للتحرر، أو ليس بالإمكان تحريرها، أو لا تستطيع أن تتحرر من ثقل وقع رمزية الأيقونة عليها ؟، وكيف يمكن أن تواصل الإنسانية لعبة مداعبة الأيقونة لإيهام العدد اللامعدود من أن الأيقونة تكفي لإقناع جموع النساء التي تخفيها وراءها بشرعية غبنها لوحدها،وبأحقية رفع الغبن عنها بالنظر إلى ما عانته من أهوال كفيلة بإيقاظ همم كلّ النساء المغبونات عبر التاريخ الممتد من الماضي السحيق إلى المستقبل العريق. وهذا يكفي لكي يفهم العدد اللامعدود أن دوره الأصل هو الاقتناع التام بتحرر الأيقونة، أو بتحريرها من دون أن يكون لذلك أثر حقيقي على الجموع المترامية في هامش التاريخ والجغرافيا، وهي تجعل من الأيقونة نموذجا للتأمل وتمثالا للتعبد. فمتى كان تحرير الأيقونة كافيا لكي يتحرّر ما تحيل إليه !؟ ثمة صراع متواصل لا يقول نفسه بين المرأة والمرأة، بين المرأة و الأم، بين الأم و الجدة، وبين الأم و البنت، بين المرأة في كل حالاتها والمرأة في كل حالاتها ربما اختصرها الصراع الأبدي بين المرأة و الأنثى. وهو صراع لا يعكس تكلّس التصورات التقليدية التي حولت كل النضالات الطلائعية التي طبعت معارك تحرر المرأة في المجتمعات الغربية أولا خلال القرن العشرين خاصة، إلى مجرد تأملات رجعية انتهت بمأزق انحصار الفكر التحرري- في نسخته الغربية- في دائرة المناولة الإيديولوجية التي عادة ما سخرت المرأة لأغراض إيديولوجية توسعية بحتة لا علاقة لها بتاتا بمبادئ التحرر التي يرفعها الفكر الغربي سلاحا فتاكا في وجه المجتمعات البعيدة عن دائرة المركز الذي شهد تحولات الحرية و انبثاق مفاهيمها في واقع المجتمعات الغربية خلال القرن التاسع عشر و القرن العشرين . هل بإمكاننا التذكير برفع مبدأ حرية المرأة في معركة الغرب مع مجتمع مختلف ومختلف في أفغانستان مثلا، لأجل تقويض نظام سياسيّ يحمل مشروعا مناقضا عن التصور الغربي عن الإنسان ككل و ليس عن المرأة فقط؟و ماذا عن حقيقة المرأة الآن في هذا المجتمع بعد انتصار التصور الغربي؟ أليست كما كانت من قبل؟! ألم تزدد سوءا في مجال التعليم والصحة و العمل؟! ربما كانت أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات المتخلفة التي نحن جزء منها، لا يكمن فقط في الاقتناع بمعارك تحرير المرأة كما جرت في المجتمعات الشرقية خلال النصف الأول من القرن العشرين، على الرغم من الدور الرائد الذي لعبته في معركة نشر الوعي ، و هي أصعب المعارك على الإطلاق، و إنما يمكن كذلك في وجوب توفير الوعي الحاد بما يمكن أن يحمله التصور العولمي الراهن لنموذج العيش الذي يقدمه الغرب بوصفه قوة مهيمنة تفرض رؤيتها على العالم ككل، و على المجتمعات الشرقية خاصة. ذلك أن في هذا النموذج ، كما يراد له أن يتحقق بسرعة قياسية في المجتمعات الشرقية، ما يدعو إلى التأمل و التفكير في حال مجتمعاتنا و هي ترزح تحت نير التخلف الجديد و الأمية الجديدة و سوء العيش الجديد و المظالم الجديدة، تحت وطأة أنظمة سياسية و اقتصادية خاضعة للنموذج الغربي، و لا تريد بأيّ حال من الأحوال أن تتغير و أن يكون مبدأ تحرر المجتمعات من حالة الركود المتكلسة طريقا لتحرير الذات الجمعية ممّا أصبح يشكّل نوعا جديدا من التخلف الخطير الذي يحمل في ظاهرة بعض علامات التحرر الشكلية، و لكنه لا يزال ينضح بما يجعل المجتمعات الشرقية مجرد رهائن بصيغة الجمع للنسخة المُعَدّلة و المُحَيّنة من معركة التحرر المُجزّأة برغبة محلية عارمة و بتأكيد و حرص عميقين لصانع النسخة و مُصدِّرها إلى هذه المجتمعات. ربما كانت الأمثلة كثيرةً يقدم كلٌّ منها صورة لما يجب أن تكون عليه المرأة بمحاربة ما هي عليه من جهل و مرض و ظلم و تبعية للمنظومات الذكورية التي تجدّد أشكالها و ألوانها، و نظرا لما هي عليه كذلك من حالة تلاعب بهذه المظالم كلها، و تسخيرها لخدمة أغراض هي أبعد ما تكون عن حقيقة المعاناة التي تعيشها المرأة في المناطق المعزولة و في الأرياف و في الأحياء المكتظة في المدن الكبرى، و قد تستوي في هذه الحالة المرأة في المجتمعات المتطورة و في المجتمعات في طريقها إلى التطور و في المجتمعات المتخلفة. فهل ثمة من تصوّر جديد يتجاوز المطلبيّات التقليدية التي تنحصر في ما طغى على معركة حرية المرأة في القرن الماضي من تيمات انحصرت في ثلاثية ( الأنوثة/ الجسد/ اللذة) والتي تريد العديد من النضالات الوهمية الراهنة أن تعيد أسر قضية المرأة داخلها؟، وهل من إمكانية لتجاوز الحقوق الأساسية التي شكلت ولا تزال تشكل شرطا أساسيا لتحقيق وجود المرأة و حريتها مبدئيا كالصحة و التعليم و السكن و العمل و العيش الكريم، بما يتوافق مع تصورات المجتمعات و خصوصياتها!؟ ، و هل ثمة من سبيل للخروج من ثنائية ( المرأة/ الرجل) للدخول في طرح الأسئلة الحقيقية التي تحملها دائما حقيقة (المرأة/ الإنسان / الوجود) بعيدا عن تصورات الاستغلال المستديم لمصنع ألم المرأة من أجل إنتاج مهدئات لألم المرأة؟..