يكثر الحديث هذه الأيام عن التعديلات التي تنوي الجزائر احداثها في القانون العضوي للانتخابات، الذي يجري في ظل ما افرزته ارهاصات الماضي من تزوير وترويج للمال الفاسد الذي عفن الأجواء وضرب بمصداقية الانتخابات عرض الحائط، وجعل الهيئة الناخبة تلزم بيوتها في عزوف واضح عن المشاركة في مسرحيات نتائجها كانت معروفة مسبقا. هذه الأمور نبه إليها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون خلال حملته الانتخابية وحتى بعد انتخابه رئيسا للبلاد في ديسمبر 2019، أين وعد الشعب الجزائري بجملة من التعديلات التي ستقطع الطريق أمام ممارسات الماضي وفق معايير صارمة، تعيد الثقة بين الشعب الجزائري وقيادته. وفي هذا الإطار تعكف هذه الأيام لجنة اعداد مشروع القانون العضوي المتعلق بالنظام الانتخابي على إعداده، وفق التوجيهات التي قدمها لها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، خلال جلسة العمل التي جمعته بمختلف الفاعلين في هذا المجال خلال الأسبوع المنصرم. ومن المنتظر أن تفرج عنه في أقرب فرصة، من أجل إفساح المجال أمام الهيئة الناخبة لاختيار ممثليها في مختلف المجالس النيابية، سواء على مستوى الهيئة التشريعية أو المحلية بكل شفافية وفي جو يسمح لكل الراغبين في الترشح بذلك. لكن الإشكال الذي يطرح نفسه هو ماهو التصور الذي يمكن أن يكون عليه هذا القانون، وكيف يمكنه حماية صوت الشعب والراغبين في الترشح من عديمي الضمائر حتى نصل بالجزائر إلى بر الأمان؟ هي تساؤلات تصب في صلب التوجيهات التي كان رئيس الجمهورية حازما قد طالب بها لجنة اعداد المسودة وعلى رأسها الالتزام بأخلقة الحياة السياسية، والابتعاد عن تأثير المال الذي طالما أفسد أعراسنا الإنتخابية، وحرم الكثير من الكفاءات الوطنية الرافضة لسياسة الجهوية، ومقايضة المناصب بالمال من الوصول إلى سدة الحكم والمشاركة في صنع القرار. مطالب شعبية بالتغيير وهذا بسبب سياسة الترشح التي كانت تتم بطرق غير قانونية في مفاوضات تحت الطاولة، أفرزت ما اصطلح على تسميته ببرلمان "الحفافات" و«الشكارة"، في إشارة إلى المناصب الأولى في قائمة الترشيحات لدى الأحزاب العتيدة التي كان يتم تقييدها بأموال طائلة. هذه التجاوزات في الترشيح أوصلت الجزائر إلى انسداد سياسي كاد أن يعصف بها، بسبب خروج الشعب إلى الشارع في 22 فبراير 2019 في حراك مبارك رافقه الجيش الوطني الشعبي، أين طالب المتظاهرون السلميون بضرورة حل هذه المجالس التي لم يخترها الشعب ، وأن تقوم الجزائر الجديدة على احترام مبدأ الشرعية والتداول على السلطة وسيادة حكم القانون، مركزين على تعديل قانون الانتخابات وخاصة قانون الولاية والبلدية ما يتيح الفرصة امام الشباب للمشاركة. هذه النقاط أخذها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون بعين الاعتبار ووعد بأن تكون ثاني ورشة له بعد الدستور هو تعديل قانون الانتخابات ، الذي قال بشأنه رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات السيد محمد شرفي بأن "تأسيس السلطة جاء كردة فعل لما سبق من ممارسات سلبية تسببت بطريقة مباشرة وغير مباشرة في الأزمات التي عرفتها البلاد واختلالا في الحوكمة العامة" مضيفا أنه كان لهم تصور للمناهج العملية التي ينبغي اعتمادها لإعطاء الفعالية للسلطة استجابة للمطالب التي تأسست عليها وتم وضع إستراتيجية داخلية لسد الطريق أمام كل محاولات التزوير من حيث أتت "أخذنا احتياطاتنا حتى نتصدى لمحاولات المس بمصداقية الاقتراع والمحافظة على نزاهة الانتخاب". وتؤيد كل الجهات الفاعلة في البلاد مبدأ نبذ الترشح بالمال الفاسد، وما يجنيه من فساد سياسي، حيث عبر القائمون على السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات عن رفضهم تسيير الأموال مشددين على أن هذه الهيئة "جاءت لتسيير اصوات الشعب". تحقيق تأهيلي لموظفي سلطة الانتخابات ولحماية المترشحين من أي تجاوزات قد تحدث في الداخل، عملت السلطة على اطلاق تحقيق تأهيلي لكل من يشتغل بها، كشفت من خلاله على أن بعض الموظفين كانوا ينتمون لأحزاب سياسية ليقول في هذا الصدد السيد شرفي بأنه " لا أحد يرضى بأن يترشح ويجد موظف من السلطة مدسوس من الأحزاب". وفي جانب آخر يبشر نفس المتحدث الهيئة الناخبة بأن " النص الجديد سيتضمن انشاء لجنة مستقلة لدى السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات"، ستكون مهمتها الأساسية هو مراقبة الاخلاق العامة والتسيير الشرعي للدولة، وفق ما تعهد به رئيس الجمهورية من أجل اجراء اصلاحات سياسية واقتصادية عميقة تلبية لمطالب الحراك ومحاربة الفساد التي تستهدف اساسا تمويل الحملة الانتخابية كما أكد على ذلك السيد شرفي. كما يحمي الدستور الجزائري الذي جرى تعديله في الفاتح نوفمبر الماضي هذه الحقوق من خلال أجهزة الرقابة التي وضعها و خصص لها الباب الرابع منه من خلال المادة 184، التي تكلف هذه المؤسسات الدستورية وأجهزة الرقابة بالتحقيق في مطابقة العمل التشريعي والتنظيمي للدستور، وفي كيفية استخدام الوسائل المادية والأموال العمومية وتسييرها، وذلك من خلال المحكمة الدستورية التي تضمن احترامه. إضافة إلى مجلس المحاسبة الذي يعمل على مراقبة الممتلكات والأموال العمومية، والرقابة البعدية على أموال الدولة والجماعات المحلية والمرافق العمومية، وكذلك رؤوس الأموال التجارية التابعة للدولة مع العمل على ترقية الحكم الراشد والشفافية في تسيير الأموال العمومية وايداع الحسابات. أجهزة رقابية بصلاحيات دستورية وتم أيضا إنشاء السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته التي نص عليها الدستور في الفصل الرابع من الباب الرابع منه ، والتي من مهامها وضع استراتيجية وطنية للحماية من الفساد، والسهر على تنفيذها ومتابعتها وجمع ومعالجة وتبليغ المعلومات المرتبطة بمجال اختصاصها، ووضعها في متناول الأجهزة المختصة، وإخطار مجلس المحاسبة والسلطات القضائية المختصة كلما عاينت وجود مخالفات، وإصدار أوامر إن اقتضى الأمر للمؤسسات والأجهزة المعنية، هذا إلى جانب تدعيم المجتمع المدني والفاعلين الآخرين في مجال مكافحة الفساد، مع متابعة وتنفيذ ونشر ثقافة الشفافية والوقاية ومكافحة الفساد. في جانب آخر يرى المختصون في الشأن السياسي أن أخلقة الحياة العامة ومنع وصول الإنتهازيين إلى سدة الحكم بمالهم المشكوك بشراء الذمم لا يكون إلا وفق مجموعة من التدابير التي ينبغي أن تتبناها الدولة ويؤطرها القانون أهمها منع المحاصصة في توزيع المقاعد البرلمانية، وتوقيع العقوبات التي تصل إلى الحبس في حال ثبوت واقعة عينية تخصص شراء الذمم من قبل أصحاب المال الفاسد ، وهذا لقطع الطريق امام كل من يبتغي الوصول إلى السلطة بهدف خدمة مصالحه الخاصة وليس الصالح العام. كما يشير العارفون بدهاليز السياسة إلى أن الفصل بين السياسة والمال بات من الضروريات في الوقت الراهن، وذلك بتشجيع الشباب على الترشح خاصة ذوي الكفاءات العلمية ومن تتوفر لديهم التجربة الميدانية خاصة في المجال السياسي و التسيير الإداري، هذا من جهة ومن جانب آخر على الدولة أن تتحمل مصاريف الحملة الانتخابية لهؤلاء الشباب حتى لا يكونوا فريسة المال المشبوه. وبهذا تكون الدولة قد استطاعت ابعاد الأميين عن قيادة دولة بحجم قارة مثل الجزائر، يسعون للترشح بمالهم الفاسد من أجل تغطية مصالحهم واعطاء الفرصة للشباب ليقود القاطرة ويشارك في صناعة القرارات المهمة، وبهذا يكون قد تحقق الاعتماد على الارادة الشعبية التي تسعى إلى بناء مؤسسات على أسس ديمقراطية، والوصول الى برلمان ومجالس بتمثيلية حقيقية.