- إلى النمر الذي فر هاربا باحثا عن ال..... جاءني شاخصا بصره وكأن الأرض رجت به رجا : - هل رأيته ؟! - من ؟! - هو .. - من هو ؟! - الذي مر أو سيمر من هنا ؟! - من هذا الذي مر أو سيمر من هنا ؟! لم يزد إلا أنه عبس فيّ في يأس ثم أدبر إلى أقرب ناصية من هذا الشارع الترابي الطويل الممل ..ويداه تلوحان في الهواء كأنهما تصارعانه.. متفوها بكلمات لم أستوضحها.. فالزبد المتطاير من فمه غطى حركة شفتيه بشكل رهيب .. سألت نفسي وقد ارتضت أن تقف على الهامش وتصور المشهد بعين دامعة ومستغربة :- هل فعلت شمس الظهيرة فعلتها .. دقيقة أو دقيقتان من اختفائه..لا أذكر.. وقفت أمامي عجوز من الغابرين ..هي عجوز العش القديم الموجود في محطة القطار العتيدة ..ليس هنا من لا يعرف أشهر عاداتها وهي بيع الحظ للعاثرين من البشر ..وليس هنا من لا يعرف أنها لا تخرج من جحرها إلا نادرا .. رأيت عصاها الخشبية أطول من ظلها المنكسر على شقوق البيوت العتيدة ..ورأيت أسنانها الصدئة تنم عن ضحكة خبيثة : - هل رأيته ؟! - من ؟! - هو .. - من هو ؟! - الذي مر أو سيمر من هنا ؟! - من هذا الذي مر أو سيمر من هنا ؟! أرادت أن تنبس بكلمات لكنها لم تفعل ..عبست فيّ أكثر يائسة واستغشت ثيابها البالية ..وتوكأت على عصاها ثم غاصت بين شقوق البيوت العتيدة .. مقنعة رأسها لا يرتد إليها بصرها .. سألت نفسي وقد ارتضت أن تقف على الهامش وتصور المشهد هذه المرة بعين حانقة ومتشفية : - أتمنى أن تفعل شمس الظهيرة فعلتها .. دقائق أخرى، لمحت من بعيد أغلب سكان هذه المدينة الجنوبية يهرولون في كل مكان .. كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة .. - هل رأيته ؟! - من ؟! - هو .. - من هو ؟! - الذي مر أو سيمر من هنا ؟! - من هذا الذي مر أو سيمر من هنا ؟! قالوا في صوت واحد.. صوت جهوري قاس: - هكذا أنت.. كأنك لست منا أمسكت بركان الغضب حتى ينفجر كما يفعل ذاك الذي يحاول فتح قارورة الكوكاكولا وصرخت صامتا : - اصبر على ما يقولون.. فأنت لا تملك في هذه الساعة الحارقة إلا إياها..ثم رأيتهم كأنما غشيت أبصارهم.. لا يفقهون أي السبل يسلكون.. إشارات من أياد بائسة تتقاطع في فوضى..هذا هو السبيل.. لا إنما هذا.. لا..لا ..بل هذا .. ثم تهامسوا في ذعر شديد : - أين.. أين ذهب ؟ - من ؟ - هكذا أنت.. أكيد أنت لست منا تأملوني مليا بنظرات مريبة ثم شدوا أقدامهم وانتشروا في الشارع الطويل الممل ..زرافات.. زرافات .. ازددت يقينا في هذه الظهيرة أن نشرة الأخبار التي يوزعها مركز الأرصاد الجوية - الكائن مقرها في المدينة الشمالية- عبر الوسائل السمعية أو البصرية هي أشد بغضاء وعداوة للإنسان في هذه المدينة الجنوبية.. إنها لا تستحي وتصر على الكذب .. « نعلم أهلنا في المدينة الجنوبية أن حرارة شمس هذا اليوم لن تتعدى بحول الله 40 درجة.. لذا ننصحكم بالمكوث في البيت وشرب الكثير من المياه « . شيخ الحارة التي فيها الشارع الطويل الممل.. كان يهش بمروحته المصنوعة من سعف النخيل ما تبقى من الذباب الأزرق.. صرخ في المذياع وألقاه أرضا فتهشم : - الداعرة..هذا افتراء.. إنها تكذب..لماذا لا يقولون الحقيقة.. إنها تفوق ال 60 درجة وفي الظل أيضا.. إنها تجعل أنف البعير ينزف ..فما بالك بنا نحن.. ثم سقط مغشيا عليه ولم ينزف ولم ينهض أبدا .. - نحن نعيش برحمة الله .. هكذا قالها لي والدي ومن قبله جدي قبل أن تواريهما - الشمس اللعينة-التراب.. إنها ساعة الدوام المسائي وقد أطلت المكوث في هذا الشارع الطويل الممل ..فلا بد لي من الرحيل..نظرت إلى عجلات سيارتي الأربع فوجدتها قد عانقت الرمل وعشقته وأبت فراقه.. فكرهت البركان ولعنت قارورة الكوكاكولا.. - الداعرة.. إنها لا تفتري ولا تكذب فقط.. بل تستغبينا جميعا.. بشرنا وحيواننا وزرعنا وأرضنا وسماءنا .. لم أع ماذا أفعل.. استسلمت ثم ركبت السيارة وفتحت المكيّف جاهدا كي أصدق أنه يلطفني.. ثم عدلت المرآة كي أتبين ما يحدث خلف السيارة.. إذ تناهت إلى سمعي جلبة لم أستسغها.. فشمس هذا اليوم أوحت لنا بأشياء لا تنذر بخير.. وكان هو .. نعم هو ... تجلى أمامي بلحمه وشحمه.. كانت عيناه جاحظتين مرعبتين.. ولسانه لا يستقر على حال كمن يبحث عن مأوى رطب.. وبراثنه تتشبث في الرمل في عتو.. من هول الفاجعة وجدتني أسائل نفسي وأجيبها في آن واحد : - من ؟! - الذي مر أو سيمر من هنا - من ؟! - ألم تره ..؟! - نعم رأيته - أنا لا أصدق - لا بل صدق - حقيقة هو - نعم هو.. النمر - وماذا ستفعل الآن ؟ - لا أعرف -إنه النمر.. - وهل سبق لنا أن رأينا نمرا حرا طليقا - جاءنا ضيفا السيارة كأنها كرة من الخيط في يده.. وأنا كأني فأر وسط علبة حديدية.. - هل هو جائع ؟! - غاضب - ألم تعجبه المدينة الجنوبية ؟! - أكيد دقائق قصيرة مضت كأنها الدهر.. حاق بي عذاب مهيب.. سبّحت واستغفرت طويلا ونطقت الشهادة.. أدركت كم كنت مخطئا في حقي وحق زوجتي وحق أولادي وحق جيراني من أهل الشارع الطويل الممل ..عرفت أن لي مبالغ مالية لا تزال عالقة في رقبتي.. أيقنت أن الله أقرضني قرضا حسنا فلم أضاعفه.. وقبل أن ينفجر البركان كقارورة الكوكا كولا انفجر دوي رصاص في المكان .. و بعين دامعة تحرقها قطرات العرق المنهمرة.. رأيته يتهاوى وينهار فوق الرمال الملتهبة فيرسم لوحة مأسوية دامية.. ورأيت أغلب سكان المدينة الجنوبية يسارعون إلى حمله وقد غمرتهم نشوة وهستيريا من شدة الفرحة والسعادة.. حتى أني رأيت صغارهم يلتقطون - بهواتفهم النقالة- صورا وفيديوهات سيلفي وهم يسلخونه كما تسلخ الأرانب ..كدحت في بأس حتى أثنيهم عما يفعلونه.. ليس رفقا بهذا الحيوان المهاجر فقط.. بل لأني قدرت البشر في هذا العالم وخشيت من تهكمهم علينا لسنوات طويلة.. فزجروني ودفعوني بعيدا .. أحدهم ..قال لهم : - ما ضر الشاة سلخها بعد ذبحها أحدهم ..قال لي : - أنت لست منا .. هززت رأسي أسفا ثم جلست داخل سيارتي أدخن السيجارة بشراهة : - أنا من هذه المدينة الجنوبية.. لكني لست منكم .