تابعت عشرات العروض المسرحية، وكتبت عن قسم منها في الصحف، وفي بعض المجلات والكتب الجماعية خارج البلد ، أمّا السؤال الذي ظل عالقا في البال فيتمثل في هوية العروض وأسئلتها الجوهرية، أو حقيقتها في ظل هيمنة الاقتباسات والنصوص القادمة إلى الركح من التجربة الأجنبية، على تنوع مدارسها وأهوائها وسياقات إنتاجها ومقاصد النص والاخراج ومختلف مكوّنات المسرحية التي لا تأتي جزافا.لكل علامة إحالات قد تكون ممتلئة دلاليا، ومن ذلك الفضاء والممثلين واللغة والزمان والمعجم، وهناك أبنية وتقنيات ذات معنى، وليست ترفا ذهنيا عابثا. * عندما نقتبس النصوص من مهارات الأجانب ،، مع ضرورة التمييز بين الاقتباس والنقل والسرقة الموصوفة التي تسمى اقتباسا في بعض الممارسات الركحية ، فإننا نقوم باستحضار بيئة مميزة بمجموعة من التقاليد، ثقافية وفكرية وتاريخية وحضارية. هذه التركيبة ليست سوى حصيلة ظروف أنتجها المخزون. لذا تصبح التبيئة ، أثناء أيّ تقليد، حتمية احتراما للجمهور،ولمقام الحال، مع وجوب خلق انسجام ما بين النص والواقع بحثا عن مبدأ التداول حتى لا يقع انفصال بين المنقول والمحيط الخارجي الذي يستقبله محمّلا بمجموعة من التصورات، وبإحالات إلى كيانه كقوة ضاغطة في توجيه القراءة، وفي التفاعل مع العروض، على تباينمواردها وبطاقاتها الثبوتية. * المشاهد، عبر العالم، يدخل قاعة العرض بمقدمات وعتبات ثقافية ودينية وأنثروبولوجية واجتماعية ونفسية وسياسية وفنية وقيمية، وهو يتوقع، في أغلب الأحيان، أن يعثر على ذاته في ما تعرض عليه الخشبة من مرويات تخدمه في جهة ما، على هذه المجاورة المحتملة بينه وبين الحكايات والأحداث والمشاهد والأفعال والتلوينات التي تقدم له كي يشعر بأنه معني، أو موضوع للنص الذي يقرّبه من نفسه بالتحليل والتمثيل، أو يعبر عنه بجماليات مدروسة سلفا، وليس بالاستناد الكلي إلى أشكال ليست ذات علاقة به وبتكوينه، وبما ينتظره من العرض الذي يخيّب توقعهبالنظر إلى الإفراط في التغريب المغالي. * يحدث هذا الانفصال في بعض التجريب الذي لا ينطلق من وعي بمتطلبات المتنوالمحيط المستقبل للمنجز، أو على حلقية فكرية لها منطق تراتبي مقنع، أو علاقات إلزامية مع الجهد السابق، قبل تخطيه بالحذفوالاضافة لأغراض وظيفية مبنية على تمثل للنص وتشكلاته ومداركه الفنية و الموضوعاتية ، لتقنيات العرض، ولطبيعة المتلقي الذي يقرأ وفق تموقعه وخصوصياته، مع ما للتموقع من قيمة في قراءة الخطابين اللغوي والبصري والتفاعل معهما، سلبا أو إيجابا. * الحداثة الغربية التي أصبحت سجننا الاختياري، انطلقت من التمرد على تعاليم الكنيسة، ورفضت التمادي في محاكاة الارثين اليوناني واللاتيني بحثا عن نفسها. لقد كان ذوبان النثر والشعر، والمسرح أيضا، في الكتابات القديمة، أحد الأسباب التي أدت إلى مراجعة ما يكتب، بما في ذلك اللغة مع جماعة الثريا التي بدت متدمرة من التقليد، كما أملاه الفرز والمفاضلة.في حين ظلّ مسرحنا، في أغلبه، متجردا من جذوره، مشدودا إلى الانجازات الأوروبية والأمريكية التي أنتجتلشعوبها، ولغايات تواصلية ذات خلفيات عينية، مهما كانت سريالية أو دادائية أو عبثية أو لا معقولة، لأن هناك مقاما يسوّغ الكتابة، وتقاليد مشتركة، بصرف النظر عن الاختلافات والاختلالات. * تلاوتنا للمسرح الألماني مع برتولدبريخت، أو للمسرح الانجليزي مع شكسبير وبيتر بروك، أو للمسرح الفرنسي مع موليير وراسين ويوجين يونيسكو، أو للمسرح الايطالي مع إدورارد و دي فيليبو، أو للمسرح الروسي مع ليونيد زورين، أو للمسرح الايرلندي مع صمويل بيكيت قد تقدم إضافات كثيرة للمتلقي إن استثمرت القراءات بنباهة الرائي لأن هذا المسرح بلغ مرحلة متقدمة من الوعي بنفسه، بالنص والعلامة والوظيفة والبعد. صحيح أنه مسرح إنساني نتقاسم معه أسئلته، لكنه ملتزم بشخصيته كنواة،وبمحيطه كمنطلق موجه لمساراته العامة. * ستكون الاستفادة النسبية منه حتمية للأخذ بمعارف ركحية جديدة تنمّي مسرحنا وتخرجه من سديم التعامل مع السفاسف المتواترة، مع وجوب التمييز بين النقل والعقل كثنائية وجب التفكير فيها مليا لتفادي الوقوع في الآلية التي تنفّر المتفرج، كما يحصل مع بعض الكتّاب والكتبة الذين يشتغلون تحت ضغط ثنائية العرض والطلب بحثا عن جوائز وشهرة زائفة، ومن ثمّ الكتابة للآخر وعن الآخر، بذاكرته ورؤاه ومنظوره للعالم. إن استنزاف المسرحيات الغربية، دون تبصرمعانيها وظروف نشأتها وتطورها، وبالتحريف الحالي، ليس سوى نقلولصق آني لمجموعة من الهويات المتجذرة وفرضها على مجتمع مغاير، ومن ثمّ تخلي المسرح عن أناه والذوبان في هويات شكّلها الوقت. ما يؤدي، بالضرورة، إلى عدم تفاعل الجمهور مع خياراته التي تتحدث عن حياة الغريب ونفسيته وصراعاته مع الذات والكون، عن نواميسه واهتماماته الاجتماعية والفلسفية والدنيوية والوجودية، وليس عن واقعه. الأمر لا يتعلق بالنصوص فحسب، بل بالأشكال أيضا، أو بالكيفيات الناقلة للمعنى، باللباس والإضاءة والمتممات ومختلف اللواحق التي تسهم في تكوين العرض، ومنها السينوغرافيا كخطاب غير لغوي قد يأتي منفصلا عن المحيط، وعن النص أيضا، وعن المعارف التي تميز شعبا عن غيره، دون أن يكون واعيا بنفسه، وبوظيفته الخطابية في المتن العام للإرسال، وذلك بادعائه التثوير بالقفز على الخطابات اللغوية ومآلاتها تكريسا للموضة. التهافت على المسرح الغربي، دون توطين عارف يأخذ في الحسبان رغبات الجمهور وطبيعة البيئة، هو تكريس للمركزيات، لمسرح المؤسسات الضاغطة، ولفكرة الأدب العالمي التي دعا إليها الأديب الألماني غوته، قبل أن يتراجع عنها دفاعا عن الخصوصية، عن الطابع المحلي للإبداع الذي وجب حمايته دعما للتباين، للاختلاف المنتج للمعنى، كما تقول اللسانيات والسيمياء.هل نحن أمام موقف بورجوازي للمسرح الذي يتعالى على بيئته بتقليد النصوصوالمؤثرات البصرية والسينوغرافيا التي يفترض أن تخلق أجواء الأفكار المسوّقة في علاقاتها مع الأفعال والأحداث من أجل تجسيد عوالم الأخيلة والملفوظات والحوارات في علاقاتها بالواقع؟.. * في أفقر المجتمعات وأكثرها تخلفا هناك دائما مادة قابلة للتمثيل بأقل تكلفة ممكنة، مواد سحرية أو خرافية أو أسطورية أو عجائبية أو واقعية. يكفي أن يبصر المخرج حركية الأشياء من حوله ليدرك أنه منفصل عن مقوماته وإرثه، وضد نفسه كفرد يتحدد اجتماعيا، بالمفهوم الماركسي، على نسبيته. الاخراج المسرحي، في جوهره، يقوم بالبحث عن التوازن الممكن بين أجزاء العرض، وهي كثيرة، لكننا عادة ما نلاحظ نوعا من التفكك بين هذه المتواليات والمكوّنات التي تأتي متشظية، متنافرة، وليست ذات علاقات جامعة، ومتكاملة، وأصيلة. * نحن اليوم أمام هويات مركبة: النص والاخراج والسينوغرافيا والاضاءة والتصويت، وحتى اللباس أحيانا، وداخل هذه الهويات، هناك هويات أخرى على اعتبار أن المسرح ينقل من كل تجربةنتفا لا تتوافق بنائيا بسبب تعدد المصادر وتناقضاتها، ما يؤثر على وحدة العرض وانسجامه، وعلى علاقته بالجمهور الذي يبدو أجنبيا، ولا صلة له بما يسوّق من محكيات وتقنيات. المسألة لا تخص الغزو الثقافي والاستلاب، أو التثاقف الواعي لأهميته في ترقية الذائقة والانفتاح على الآخر، بل علاقة المرسل بالرسالة والمتلقي والمحيط. الجماهير المقهورة التي لا تجد قوت يومها لن تولي أهمية كبيرة لثقب طبقة الأوزون، ولا للاحتباس الحراري ومميزات "تاجر البندقية" قبل قرون في عاصمة إقليم فينيتو، لأنها تبدو في مقام أدنى، وبعيدة عن انشغالاتها. ماذا نريد من المتفرج في هذه الأوطان المصرّة على تعطيل العقل ومحو الذات والاكتفاء بتمجيد الآخرين؟ أن يتماهى مع أعمالنا التي لا تقنعه؟ أن يتقبل إهمالنا له والاهتمام بالشعوب الأخرى التي تصدّر لنا تقاليدها الفنية وثقافتها ومظاهر حياتها؟ أن يتنكر لانتمائه ليفهمنا نحن الحداثيين الخارقين؟ حتى هذه الخطوات تستدعي حلقية ووقتا للتخلص من الموروثات إرضاء للمخرجين. ربما كان علينا استيراد جمهور يشاهد المسرحيات ويتفاعل معها، أو يذمّها من حيث إنها تكرار مشوّه، أو معاودات بلغت درجة كبيرة من التشبع، أو فرع لا يرقى إلى الأصل كقيمة لها ما يبررها لأنها صادرة عن قناعة، وليس عن محاكاة متورمة. هذا الطرح ليس دعوة إلى الاكتفاء بالمحلي، على ضعفه أحيانا، خاصة عندما يتكئ المخرجون على كتاباتهم، معتقدين أنهم يمثلون اليقين. إنه دعوة إلى تفعيل الجهد بالابتعاد عن الجاهز، إلى منح مجال للعقل المنتج، دون الاحتكام إلى المواقف النافية للعبقرية المحليةالتي تقرّب الجمهور من المتون المسرحية وأشكالهابحثا عن علاقة وصلية بين المسرح والقاعة، ومن ثمّ تفادي الامحاء في الهويات المتنافرة والتمثيل للآخر، ثمّ إنّ علينا فتح منافذ للمشاهدليتكلم لأنه يختنق، للملاحظات المؤثثة لمعرفة من نحن وماذا نريد، وإلى أين وصلنا بعد عقود من القلقوالتردد والتقليد والألوهية المتنامية.