قرأت في السنين الأخيرة عدة أناشيد وقصص ونصوص مسرحية موجهة للأطفال، كما شاهدت عروضا متفاوتة القيمة، ومنها تلك التي كانت مشاركة في مسابقات وطنية، وقد خرجت بعدة انطباعات مؤسسة على المتون: الموضوعات والشخصيات والكيفيات المتواترة، التقنيات والرؤى والمقاصد والمعالجة، إلخ. من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الكتابة للطفل تظل محفوفة بالمخاطر لأنها تستدعي حذرا ومهارات مركبة، ومعرفة دقيقة باللسانيات وعلم النفس اللغوي وعلم الاجتماع وقضايا الجمال والحضارة والتكنولوجيا الجديدة وحقولها ومصطلحاتها. ذلك لأننا نتعامل مع فئة عمرية لها نشأة مختلفة عن نشأتنا، وخصوصيات وجب مراعاتها أثناء التأليف، إضافة إلى علاقاتها بالمجتمع والصيرورة. ثمّ علينا أن نطرح أسئلة قاعدية قبل الكتابة: حدودنا التأليفية، معرفتنا، لماذا نكتب لهؤلاء؟ وكيف؟ وما هي الوسائل والمقاصد والمنافع؟ وجدت، رغم بعض الاستثناءات العارفة، أنّ أغلب العروض والنصوص منهكة على عدة أصعدة لأنها لم تؤسس على هذه الأسئلة في كلّ ما جاءت به: الموضوعات المكررة، الطرح، الخيال المستهلك، المحاكاة الإملائية للمنجز السابق، النقل، التسرّع، محدودية الرؤية، اللغة الهجينة، العلاقة الفصلية بالمحيط الخارجي واهتماماته الفعلية، التركيز على المكاسب المادية على حساب الإبداع والأخلاق. ثمة خلل مدمّر في هذه الكتابات التي لم تبن على وعي كاف يؤهلها لفهم عالم الطفل وترقيته، أو لتعليمه طرح الأسئلة، بعيدا عن امتصاص القناعات اليقينية التي تسوّق له في شكل مواعظ كفيلة بتحييد عقله وقدراته التخييلية. الكبار يعلمون الصغار التبعية لهم وللمستورد والجاهز، في حين أنّ هؤلاء يحتاجون إلى نشأة تحيّن مشاعرهم وذكاءهم المغاير، وليس مشاعر من يكتبون لهم باستعلاء ليكونوا موالين لهم، أو آلات لتكريس المكرّس وجعله أكثر ثباتا. أجد، على سبيل التمثيل، أنّ التركيز المستمر على الحكايات السحرية المتواترة من قرون، رغم قيمتها التاريخية، لا يسهم كثيرا في تربية الذوق وتقويته ليواكب الحلقية المنتجة للمعنى، أو ليستقل عن بعض الأوهام القصصية التي تفصله عن حقيقته وحقيقة المحيط الخارجي الذي يتحرك فيه. أشير ها هنا إلى حكايات الجنّ والملك والقصر والأميرة والشرير والأداة السحرية والغول والمعتدي والبطل الخرافي والمنقذ والمكان الحاف، وكلّ الفضاءات المتخيلة، تلك التي تقذفه إلى عوالم تفصله عن بيته وحيّه ومدينته وواقعه وبلده، لتدخله في عالم من الأوهام التي تتكئ على أحادية رؤيوية باهتة، وعلى حلول لا قيمة لها لأنها مثالية، وليست مقنعة بالنظر إلى طبيعة السياق الحضاري الجديد الذي يتحرّك فيه. أغلب النصوص المقدمة للمسرح عبارة عن نسخ متجاورة، متماسة ومتطابقة، منفصلة عن التاريخ والفضاء، وعن المنطق الذي يشهد انمحاء كليا بفعل التأسيس على النقل، أو على المحاكاة الكلية، أو الحرفية لما تمّ تداوله في سياقات عينية لها مسوّغاتها الوظيفية، ومن ثمّ إعادة إنتاج مسوخ لا يمكنها تنشئة الأطفال على الحقيقة، حقيقتهم الفعلية. يمكن للمتلقي أن يلاحظ المسار المتعاكس لمسار الزمن ومسار الحكاية والأشكال والمعالجة والرؤية النقلية القائمة على الحفظ: هناك من جهة التطور المتسارع للمجتمعات، وهناك، من جهة ثانية، العودة بالحكاية ومكوناتها إلى الموروث العالمي المتجاوز: العوالم السحرية والخرافية في شكلها المتواتر من سنين، ما يكرّس، بالضرورة، أخيلة ميتة، ومسارا حكائيا مكشوفا لأنه امتداد آلي لمجموعة من البنى الباهتة. يفترض، من الناحية المنطقية، أن يستثمر مسرح الطفل في المنجز الحضاري ومختلف ابتكاراته، مستفيدا من عدة علوم تؤهله لمعرفة نفسية الطفل ورغباته. أمّا المسائل التراثية المحلية والوافدة فيمكن تبيئتها وفق عقل تداولي، ووفق منفعة يقتضيها سياق الإنتاج ومتطلباته، ثمّ بالعودة إلى إستراتيجية تنظر إلى المستقبل، دون أن تلتصق بما أنتجه الماضي لأسباب وغايات. يجب التأكيد ها هنا على الحكاية الشعبية التي غدت جوهرا ثابتا، وليس وسيلة لخدمة الواقع. ماذا نريد من الطفل؟ هل نرغب في أن يكون سوقيا؟ ذاك ما يمكن استنتاجه انطلاقا من الجانب اللساني. إن نحن سلّمنا بأنّ المسرحية تقوم بدور تعليمي فإنّ عليها ترقية الشارع إلى مستوى لغوي مقبول، أمّا النزول باللغة إلى السوق فيجعلها فظة، غير مدرسية، وغير مؤهلة لتنشئة الطفل على التواصل بشكل معياري. ومن ثم فقدان المسرح لإحدى وظائفه الأساسية: ترقية اللسان وتقويته، بدل تشويهه بلغة هجينة لا معيار لها، كما يحصل في بعض التجارب الاستعجالية، أو المؤدلجة: الأطفال ليسوا بحاجة إلى أيديولوجيات خرقاء، إنهم بحاجة إلى حصانة، وإلى جمال يؤهلهم لمعرفة الحياة وفلسفتها وإمكاناتها. القضية اللغوية بطاقة دلالية تضبط بعض جوانب العمل المسرحي وتقوّم عوجه الممكن، ولا يمكن الاعتقاد بأنها طارئة، وسيلة جزئية نتكئ عليها لتمرير الخطاب، إن كان هناك خطاب مدروس سلفا. أمّا أن تغدوّ مجرّد تفصيل فتلك مشكلة تدخل في باب قصور الإدراك اللساني. هذا الاستخفاف باللغة سينتج أعمالا مشوّهة، ليست مؤهلة لأن تتوجه إلى الطفل من حيث إنها عاجزة، ولا تملك الوعي الكافي لمخاطبته بطريقة سليمة لأنها لا تعرف ما وجب معرفته، بصرف النظر عن التفاصيل النصية الأخرى التي تستدعي تفوّقا تواصليا. الكتابة للطفل ليست أموالا أو ربحا ماديا. إنها معرفة مركبة بالدرجة الأولى، جهد استثنائي مؤثث بمختلف المعارف والتخصصات المؤهلة لإنتاج نص مسرحي مسؤول عن تحصين فئة بحاجة إلى زاد مؤسس ثقافيا وتربويا وجماليا ولغويا، وليس إلى نصوص مغامرة لا قدرة لها على معرفة نفسها، ما يفسر تبوأ هذه النصوص المنهكة التي توجه للطفل الضحية.