يلاحظ المتلقي، أن أغلب المسرح العربي يؤسس على نصوص غيرية، ما يعني أن مسرحنا قام على استيراد ما أنتجه الآخرون لمقتضيات خاصة، بصرف النظر عن قيمته، لكنه يظل منجزا لم نساهم في إنتاجه، إنما انتقل إلينا مترجما، وبدرجات متفاوتة من التلقي والاقتباس. هل يجوز الحديث عن مسرح عربي يحاكي خطابا لم يساهم في صناعته؟ هناك في النص، اللغوي وغير اللغوي، مهما بدا عليهما من حياد، آثار من أنظمة علامات تشتغل حاملة لدلالات لها مرجعياتها وهويتنها، ووفق سياق ونتائج ذات علاقة ببنية معرفية ما، لذا سيغدو أيّ ارتباط بالعلامة المستوردة، نقلا لمحمولات ليست مساوقة للذات من حيث إنّها منظومة من العلامات التي لها ذاكرة. الخطاب المسرحي الغربي مرتبط بنموّ حلقي لمجموعة من التقاليد الثقافية، بحيث تعتبر كلّ حلقة نتيجة للسابقة، ومقدمة للاحقة، ما يعني أنّ التحولات الحاصلة مجرد نتائج منطقية لهذه الحلقية التي تعد ركيزة أيّ تطور يؤسس على سلسلة من التحولات المتكاملة، وهو أمر يتعذر وجوده في المنجز العربي.يبدو هذا المسرح عبارة عن انكسارات في الأنساق، ما يجعله غير مؤهل لأن يحقق ذاته، ومن ثمّ صعوبة التأثير والتغيير بوجود علاقة فصلية بينه وبين واقعه. إننا إذ نقتبس، إنما نلغي العلامات الخاصة نعيد تمثيل المستورد، كما ننقل الرؤى، وبذلك ستنمحي رؤيتنا وتحلّ محلها رؤية المصدّر، أو موقف المنتج، ما يؤدي، بالضرورة، إلى تهجير الجمهور إلى وعي آخر. لا أتصوّر أن المشاهد الإنجليزي سيستفيد من عرض مسرحي عربي لروميو وجولييت في لندن، كما أنه لن يستطيع معرفتنا ومعرفة موقفنا من حيث إننا نعيد له بضاعته. الأمر ذاته يتعلق بكيفية تعاملنا مع بيرانديللو وبيكيت وبريخت وغيرهم. ولنتذكر ما حصل للخطاب اللاتيني إذ اتخذ النموذج اليوناني منطلقا، أو ما حصل للكتابة السردية الأوربية التي اعتقدت أنّ ما يجب أن يقال قد قيل، ومن ثم وجب تقليد الأوّلين: لقد غرق اللاتينيون في المرجعية اليونانية، ولم تستطع الكتابة الأوروبية أن تكتب ذاتها إلاَ بمراجعة المرجع. قد يساهم خيار الاقتباس في نشر وعي ما، جماليات معينة، كما يمكن أن يلعب دورا نسبيا في ترقية الذوق، لكنه قد يكون في علاقة انفصالية مع محيطه، ذلك أن الطابع النقلي لا يعمل سوى على الانمحاء في المستورد، بيد أنه لن يكون مؤهلا لرسم الحاضر والمستقبل إلاَ بعيون الآخرين، إن نحن استطعنا الحديث عن حاضر ومستقبل، إذ إننا كثيرا ما نجد أنفسنا أمام حاضر الآخرين ومستقبلهم.من المهمّ توطين المستورد وتكييفه حتى لا يتعارض مع المحيط الذي يتعامل معه. لقد ظهر مسرح العبث في أوروبا لأسباب موضوعية، الشيء ذاته بالنسبة إلى التوجهات المختلفة التي نشأت في سياقات عينية كحتمية. كما أن الحداثة كانت لها جذور تاريخية، الأمر الذي قد لا يحتاج إليه المسرح العربي إن لم يخلق حداثته من ذاته. يقول الدكتور عبد الكريم برشيد: " المسرح يمكن أن يلعب اليوم نفس دور الراوي والحكواتي، وأن يلعب نفس دور المؤرخ، وأن يتعدى التأريخ للأحداث والوقائع إلى التأريخ للوجدان، وأن يقف عند الحالات والمواقف، وأن يؤرخ لما أهمله المؤرخون، ولما لم يلتقطه الإخباريون والمخبرون، وأن يشهد على هذا العصر الغامض والملتبس...". في حين يبدو بعض الاقتباس مهتما بمنجز مسرحي يؤرخ لنفسه، ولا يعبر عن محيطه بقدر ما يعبر عن حياة الآخرين، وهو أمر لا يحتاج إليه هذا الآخر. وقد ينطبق ذلك على الاقتباس والرؤية الإخراجية معا.وإذا حدث أن اهتم المخرج بنصوص محلية فإنه يبسط سلطته على المسرحية ويقوم بانتقاء ما يرغب فيه، وسيصبح العرض جزءا من منظوره العام وتصوّره للموضوعات، أي أنّ الإخراج سيحلّ محل النص القاعدي.وسنصبح الآن أمام مشكلة مركبة: مشكلة النص ومشكلة القراءة الإخراجية، أما الأولى فتتعلق بمدى قدرة الكتابة الركحية على مسايرة المتغيرات، وأما الثانية فترتبط بقفز المخرج على النص وفرض رؤيته، أي أن المسرح أصبح متعاليا على النصوص الأدبية. لقد أصبحنا أمام منتجين للخطاب، وليس أمام منتج أو منتجين، وأصبح الخطاب الواحد مجموعة من الخطابات المقروءة والمعروضة. كما أصبح التجريب، المرتبط بالمسائل التقنية، بحاجة إلى مساءلة نفسه عمّا إذا كان يعي ما يفعله، لأنه تمثّل للمنجز، ثم تجاوز له لغايات تداولية، ذلك أن السياقات تستدعي البحث عن الشكل الملائم للتبليغ. أمّا التجريب الذي لا يؤسس على بصيرة فقد لا يسهم سوى في تغريب الخطاب المسرحي وتقويضه، أو في فرض خطاب مسرحي من باب محاكاة الحداثة التي حاولت تخليص المسرح من الأدب، كما عرفت مع ستانسلافسكي، ثم مع كروتوفسكي وبرتولد بريخت وبيسكاتور. يجرّنا الحديث عن السينوغرافيا إلى الحديث عن التفكير البصري وقدراته على تجاوز الخطاب اللغوي. هل تحديث التفكير البصري مرهون بالنص اللغوي، أم إنه قوّة خطابية تشتغل خارج العلامة اللغوية؟ من المفروض أن يكون العمل المسرحي كتلة من العلامات المتكاملة، أو رزمة من العلامات المتشابكة التي تشتغل كبطاقات دلالية وملفوظات متراصة، أو كعلامات متآلفة، كما في الومضة الإشهارية. علينا أن نتساءل عمّا إذا كان التفكير البصري ذا علاقة بالنص، وعمّا إذا كان قادرا على أن يكون تتمّة له. هذا التساؤل نابع من معاينة التفكير اللغوي والتفكير البصري. هل يمكننا الحديث عن خيانة التفكير البصري للتفكير اللغوي بتحييده، أو بالتقليل من تأثيره، ومن ثمّ توجيه رغبته القاعدية وجهة أخرى لا تعنيه؟ كأن ينتقل بالخطاب من حقيقته إلى حقيقة أخرى، من الالتزام إلى العبث، من الطابع المأساوي إلى الطابع الاحتفالي. ألا يمكننا الحديث عن نوع من القطيعة، أو عن نوع من استعلاء هذا التفكير على جمهور لا يفهم خطابه، أو عن قطيعة مزدوجة ما بينه وبين النص والجمهور؟ يمكننا، مبدئيا، أن نتساءل عمّا إذا كانت للخطاب البصري وظيفة ما، عمّا إذا كان قادرا على ترقية الوعي والمساهمة في إضاءة ما لم تضئه الكلمات. يبدو هذا الخطاب، في كثير من العروض المسرحية، قويّا ومثيرا بالنظر إلى جهوده المعتبرة، لكنه، بالمقابل، يبني على مغالاة في التحديث، إلى درجة الاستقلالية الكلية، ليس عن النص فحسب، بل عن المحيط الخارجي. ما يؤدي إلى نوع من الترف في الاعتناء بذاته، ليس كشكل دال على موضوع، بل كشكل منغلق يحيل على ذاته. الخطاب البصري غاية في الأهمية عندما يتحكم في الصورة الاستعراضية التي تختزل الموجودات بطريقتها ، ولهذا الخطاب من القوّة ما يكفي للحلول محل أشكال تعبيرية أخرى، لكنه، قد يتراجع إلى درجة أدنى عندما يستثمر في بذخه. قد يساهم التفكير البصري في إضعاف النص باستمالة الجمهور نحوه، رغم أنه لا يقدم رؤية، كما يمكنه أن لا يقدم موضوعا واضح المعالم، بل مجرد نتف احتفالية تخدم نفسها. إن العودة إلى الذات من أولويات مسرحنا إن كان يريد أن يكون مؤثرا، حاضرا في تشكيل الوعي، ليس تأسيسا على النقل، أو على حداثة نقلية، وإنما على الذات كنواة قاعدية. هل يجب العودة إلى المقولة اليونانية: اعرف نفسك؟ الاقتباسات كلها نافعة إلى حدّ، خاصة عندما تحمل النصوص أبعادا إنسانية مشتركة، لكن الاقتباسات المتراكمة هي نفي للنص العربي برمته، للجهد. إنها تكريس للانمحاء. عيون كثير من المسرحيين والمخرجين العرب لا تنظر إلى المحيط بقدر ما تنظر إلى ما وراء البحر لاعتقادها بأن الكتابة الركحية العربية غير مؤهلة لأن تقدم شيئا للمخرج، لكن هذا المخرج لا يهتم بما يُكتب لأسباب، لذلك لا يمكنه أن يعرف ما يحدث في المشهد السردي. يقول فيليني: أنا دائما أحكي سيرتي الذاتية، حتى لو قصصت سيرة سمكة، ربما هي ( حياتي) عبارة عن فيلم لم أتمكن بعد من تصويره".