مقدمة المترجم : لقد خصص صديقي الراحل المفكر والدارس البريطاني الجنسية والهندي الأصول ، مدان صاروب عدة كتب لتحليل ومناقشة مفاهيم الحداثة والحداثية وما بعد الحداثة وما بعد الحداثية. من بين كتبه ذات الحظ الأكاديمي بين أوساط طلاب الدراسات العليا في تخصصات العلوم الإنسانية بكل فروعها كتاب " ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية " ، وكتاب " الهوية ، الثقافة والعالم ما بعد الحديث". ففي الكتاب الأول تركيز على الجانب التعريفي ذي الطابع النظري لمصطلحي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية أما الكتاب الثاني فيجمع بين تحليل هذه المفاهيم وبين الدراسة التطبيقية لأنماط ثقافة عصر ما بعد الحداثة ولأوضاع الهويَة في المجتمعات الرأسمالية الغربية المتطورة ، والمعقدة ، والمتميزة بالتعددية الاثنية والقومية والثقافية التي أفرزتها شروط وأوضاع ما بعد الرأسمالية وما بعد الكولونيالية في آن واحد. في اللقاءات التي جمعتني بالصديق مدان صاروب ببيته قبل وفاته ناقشنا طويلا المشاكل التي تثيرها هذه المفاهيم والمصطلحات من سوء فهم وارتباك وعدم التمييز سواء في الغرب أو في البلدان الأطراف التي تدعى بالعالم الثالث. ولاحظنا أن هناك خلطا مكررا بين مفهومي الحداثة والحداثية وينسحب هذا أيضا على مفهومي ما بعد الحداثة وما بعد الحداثية وكثيرا ما تتم المطابقة تعسفيا بين ما بعد الحداثية وما بعد الحداثة من جهة وبين ما بعد البنيوية من جهة أخرى علما أن هذه المفاهيم مختلفة. تحديد مفهومي الحداثة والحداثية : إن الحداثة Modernity ، مثلا ، في تقدير مدان صاروب تمثل " مشروعا للقرن الثامن عشر " ، ولقد صاغ وقاد هذا المشروع في أوروبا " فلاسفة عصر التنوير في محاولة منهم لتطوير العلم الموضوعي ، والأخلاق الكونية ، والقانون والفن المستقل ." أما مفهوم الحداثية Modernism فيعني في العمق الإنتاج الثقافي والفكري والفني لهذا الطور المدعو بطور الحداثة. وفي هذا السياق ينبغي التذكير أن هناك دراسات مهمة كثيرة في الفضاء الأوروبي / الغربي حول جذور مفهوم الحداثة ومفهوم الحداثية وخاصة بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي الراحل جان فرانسوا ليوطار الموسوم " الوضع ما بعد الحداثي." ونشير هنا باختصار وسرعة إلى الدراسة الفلسفية السوسيولوجية التي أنجزها عالم الاجتماع البريطاني أنثوني غيدنز المعروف كمفكر ما يدعى في الأدبيات السياسية الغربية بالطريق الثالث الذي ليس تماما طريق الرأسمالية والليبرالية وليس تماما طريق الاشتراكية بمفهومي الماركسي. ففي كتابه " نتائج الحداثة " يجتهد غيدنز و يبرز أن إدراك مفهوم الحداثة وتحديده علميا مشروط بفهم التحولات الاجتماعية التي طرأت على المجتمعات الغربية منذ القرن السابع عشر حيث يمكن القول في رأيه تعريف الحداثة بأنها مجموعة " أشكال الحياة الاجتماعية ، أو التنظيم الذي ظهر في أوروبا منذ حوالي القرن السابع عشر فصاعدا." ولكن المفكر أنثوني غيدنز يؤكد أن أشكال هذه الحياة الاجتماعية للحداثة قد تأسست على وضمن أطر أبعاد مؤسساتية يصنفها في أربع مؤسسات مركزية وهي : ( الرقابة : ضبط المعلومات والإشراف الاجتماعي / الرأسمالية : تراكم الرأسمال في سياق العمل التنافسي وأسواق الإنتاج / القوة العسكرية : ضبط وسائل العنف في سياق تصنيع الحرب / التصنيع : تحويل الطبيعة : تطور خلق البيئة .) وفي ما يلي نصَ المفكر والدارس مدان صاروب ولعله يساهم في إضاءة دلالات مفهوم الحداثة والحداثية والتمييز بينهما : ** (لكي نفهم (ما بعد الحداثة) بشكل تام، فإنّه يجب علينا أن نعرف شيئا عن الحداثة. ففي كتابه ( الحداثة والتجاذب الوجداني) المفيد جدا في هذا المجال يؤكد زيغمانت بومان في محاجته التي تنطلق من نظريات ميشال فوكو على أن البراعة الفائقة للحداثي تكمن في قوته التقسيمية، والتصنيفية للفكر والممارسة، حيث أنه يبدو في التمييز بين الحداثة والحداثية. فالحداثة هي المرحلة التاريخية التي بدأت في أوروبا الغربية بسلسلة من التحولات الاجتماعية البنيوية والفكرية العميقة في القرن السابع عشر، والتي حققت نضجها كمشروع ثقافي وذلك بنمو أفكار عصر التنوير، وبتطور المجتمع الصناعي فيما بعد. فالحداثة Modernity قد تم ربطها بالنظام، واليقين، والانسجام، والفلسفة الإنسانية، والفن الخالص، والحقيقة المطلقة إذ غالبا ما قيل بأن الحياة حديثة طالما أنها معززة بالتخطيط والبراعة الميكانيكية، والتسيير والهندسة. أما الحداثية Modernism فهي مختلفة جدا، إذ أنها تمثل نزعة فكرية فنية. فالحداثية مصطلح شامل للنزعة العالمية في ميدان الفنون الغربية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تلك النزعة التي أثرت بالتالي في طبيعة أغلب فنون القرن العشرين، فالحداثية باعتبارها مصطلحا أسلوبيا تتضمن، وتخفي في طياتها مجموعة متنوعة وواسعة من الحركات المختلفة. يحاجج زيغمانت بومان أن الصلة بين طموحات الفلسفة التشريعية وبين أهداف الدولة الحديثة قد برزت في القرن الثامن عشر، حيث كان الحكام والفلاسفة (الحديثون) مشرَعين أولا وأخيرا إذا انطلقوا في ترويض الفوضى التي وجدوها في أيامهم وذلك لاستبدالها بالنظام. فعلى سبيل المثال فقد ألحّ الفيلسوف عمانويل كانط في كتابه (نقد العقل المجرد) على أن الفيلسوف ليس فنانا فقط، إنما هو واضع للقانون ومشرَع للعقل البشري. لقد حاول الحكام والفلاسفة أن يحققوا الضمانة لتفوق النظام الاصطناعي القائم على التخطيط. ففي رأيهم فإنّ الاحتفاظ بالنظام يعني الحفاظ على الأصدقاء ومحاربة الأعداء. وقد تطلب ذلك وحدة العالم، وحماية أمن حدوده، مما استوجب تحديد الحدود بوضوح وعلى نحو صارم. إذا كان يجب الإبقاء على التمييز الحيوي بين الخارج وبين الداخل، وهذا يعني بشكل حتمي كبت التجاذب الوجداني الذي هو إمكانية لعزو الشيء، أو الحادثة لأكثر من مقولة واحدة. من المعروف أن أغلبنا يمر بتجربة التجاذب الوجداني كشيء غير مريح، ومهدد، ولذلك فإنّه لا ينبغي علينا أن نلوم اللغة على عدم الدقة أو أنفسنا على الاستخدام اللغوي السيئ. فالتجاذب الوجداني جانب عادي للممارسة اللغوية، أما الممارسة الحديثة النموذجية فتمثل محاولة لإلغاء التجاذب الوجداني. ففي أوائل العصر الحديث فإنّ حكاما ومنهم فريدريك الأكبر تحدثوا عن طموحاتهم لبناء دولة مهندسة اجتماعيا. وإلى جانب ذلك فإنّ الدولة الحديثة قد وفرت قدرات تسييرية، ومصادر تكنولوجية لم تكن معروفة من قبل. وهكذا قسمت الدولة السكان إلى قسم نافع وقسم غير نافع. وفي الأغلب فقد تم استعمال البلاغة الزراعية مثل هذه: يجب تشجيع النبات النافعة والإكثار منها، أما الأعشاب الضارة، وغير النافعة فينبغي أن تقلع من جذورها ووفقا لوجهة النظر هذه فإنّ هتلر ألمانيا وستالين روسيا كانا نتيجة، ونسلا لروح (الحديث) هذا وللإلحاح على رعاية وتسريع التقدم البشري نحو الكمال، وللنظرة المتفائلة القائلة بأن التقدم العلمي والصناعي من حيث المبدأ قد أزاح كل المعوَقات والحواجز التي تقف في وجه إمكانية تطبيق التخطيط، والتعليم والإصلاح الاجتماعي في الحياة اليومية. ومن بين أمثلة التخطيط العلمي يذكر زيغامنت بومان علم تحسين النسل الذي تمت ريادته على نحو متزامن في عدة بلدان أوروبا الغربية. إن علم تحسين النسل النازي (أي العلم الذي تخصص في تصنيف الناس واختيارهم على أساس الوراثة المفترضة كقيمة) لم يكن محصورا فقط في التعقيم، والقتل الرحيم (قتل من يشكو مرضا عضالا بطريقة خالية من الألم ) إنما قد وضع معايير للتقييم، وأنماطا من التصنيف وأشكالا من الكفاءة التي كانت مطبقة على السكان ككل. ويحاجج زيغامنت بومان أنَ التطهير العرقي الحديث ليس انفجارا غير مراقب للعواطف أو غير هادف، وليس فعلا غير عقلاني بالكامل. وبالعكس من ذلك فهو (أي التطهير العرقي الحديث) فعل هندسي اجتماعي عقلاني من أجل إحداث وتحقيق التجانس الحالي من التجاذب الوجداني الذي فشل الواقع الاجتماعي الفوضوي والمعتم في إنتاجه. ويمكن الآن تلخيص المعالم المميزة للحداثة وهي تشتمل على: 1 – إمكانية تنسيق الأفعال البشرية وبنسب ضخمة. 2 – التكنولوجية التي تسمح بالتحرك وبكفاءة وعلى مسافة بعيدة من الشيء المستهدف. 3 – التقسيم الدقيق للعمل، الأمر الذي يسمح بتحقيق التقدم الباهر للتجربة من جهته والذي يسمح من جهة أخرى بتعويم المسؤولية. 4 – تراكم المعرفة المبهمة التي لا يسبر غورها الإنسان العادي، وكذلك السلطة العلمية التي تنمو معها. إنّ القسم السابق حول الحداثة هو بوضوح كامل نقد زيغيمانت لمشروع عصر التنوير، وهو نقد مرتكز على ماكس فيبر وميشال فوكو. إنّ الأمر هنا يطرح عدة أسئلة: فهل تمثَل المعالم المذكورة أعلاه المعالم المميزة للحداثة؟ وثانيا فهل ما نزال نعيش في هذه المرحلة التاريخية أم أننا بصدد التقدم باتجاه ما بعد الحداثة؟ وهل هنالك أشكال جديدة للذاتية، وإذا كان الأمر كذلك فما هي تأثيراتها على الهوَية الفردية والاجتماعية؟ الأشكال الجديدة للذاتية خلال الأعوام القليلة الماضية فإننا جميعا قد تصادف أن واجهنا عبارة جديدة وهي (سياسات – الهوية) فماذا تعني، وبأي شكل من الأشكال هي مختلفة عن السياسات التقليدية للحزب؟ أعتقد أن مصطلح (سياسات الهوية) قد استعمل للإشارة إلى الارتباط بإحدى الحركات الاجتماعية الجديدة التي تؤكد على عنصر واحد في عملية بناء هويتنا: النوع، التوجه الجنسي، العرق الإثنية أو الوطن.. إنه يجب علينا أن نتخذ قرارا بخصوص ما إذا كانت سياسات الهوية تمثل تضييق أفق التفكير السياسي، أم أنها تمثل تفتحا وتوسيعا لفضاءات الفرد التي لم تتمكن الرأسمالية حتى الآن من سدَها. وبدون شك، هنالك بعض الناس الذين يقولون بأن مفهوما مثل (سياسات الهوية) يمكن أن يتطور فقط في المجتمع ما بعد الحداثي حيث أصبح الناس معتادين على مستوى المعيشة الراقي، وعلى الانطواء على الذات. والآن أريد أن آخذ بعين الاعتبار ثلاث قضايا ذات علاقة متبادلة، وهي: الذات، ومواقع الذات، وانبعاث مجتمعات المنفعة الجديدة والتماهي، والركن السياسي في علاقته بالأشكال الجديدة للذاتية. أريد أن اقترح أنه ينبغي علينا أن نسأل وذلك أينما كنا نقرأ أو نستمع: ما هي نظرية الذات التي استعملت؟ وما هي المعاني المتضمنة فيها من أجل فهم الفاعل البشري. إنني متفق مع ميشال باريت في قوله بأنّ مصطلح الذاتية له شهرة شعبية لأنه يشتمل على كل من جوانب وعي التجربة الخاصة، وتأمل التجارب والذكريات وغير ذلك، ولكنه يشتمل أيضا على اللاَوعي وآثاره. إنّ هذا المصطلح الواسع يسمح لنا بالتحدث عن التجربة الخاصة وعن العاطفية والمشاعر. لا يوجد أدنى شك في ذهني أنّ مفاهيم التحليل النفسي في حياتهم اليومية. إذن، فلماذا تميل الماركسية إلى نزعة نبذ التحدث عن الذاتية؟ فالماركسية قد تجاهلت التحليل النفسي الفرويدي، وربما بسبب أنه يؤكد على محدودية العقل، والعقلانية والوعي؟ فالتحليل النفسي يضع محل التساؤل مفهوم الذات للإنسان التقليدي كفاعل واعٍ ويحتل المركز، ويملك القدرة الكاملة، أي النموذج الديكارتي.. وعلى النقيض من ذلك فإنّ التحليل النفسي يؤكد على الدور القوي للاوعي، والآن ثمة منظَر أكد على أن الوعي مبني وأننا لسنا بمراكز الوعي الحرة التي تفترضها الفلسفة الإنسانية. هذا المنظَر هو ذلك الماركسي الذي حاول أن يدمج نظرية التحليل النفسي اللاكاني (نسبة إلى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان) – إنه لويس ألتوسير. «ألتوسير» وبناء الوعي من خلال الإيديولوجية عرف لوي ألتوسير بهجومه على الفلسفة الماركسية الإنسانية أي الماركسية التي تعتمد على ظاهراتية الفيلسوف هيجل، والتي تمثلت في ماركسية جان بول سارتر الوجودية. فالتوسير قد تمسك برأيه أن فكرة (الإنسان) التي استعملها سارتر قد اشتقت من تعريف إيديولوجي خاص لذات الإنسان، والذي كبت فكرة ماركس القائلة بأن ذات الإنسان ليست مركز التاريخ، وكذلك فكرة فرويد القائلة بأن الذات ليست متمركزة في الوعي. بالنسبة لألتوسير فإنّ كلاَ من التاريخ والذات مزحزحان من المركز على حد سواء. إنّ هجومه كان على ادعاءات سارتر القائلة بوحدوية ذات الإنسان التي تشكل التاريخ. وهكذا حققت مقالة ألتوسير المنشورة في عام 1970 تحت عنوان (الإيديولوجية، وأجهزة الدولة الإيديولوجية) نجاحا راديكاليا في نظرية الإيديولوجية ولقد أعادت هذه المقالة توجيه دراسة الإيديولوجية، وذلك بواسطة التأكيد على أن الإيديولوجية تملك أولا وقبل أي شيء وجودا ماديا. ولقد قدَم ألتوسير قائمة تقريبية بأسماء المؤسسات في المجتمعات الرأسمالية والتي تعتبر وظائفها وممارساتها عموما إيديولوجية منها: أجهزة الديانة، والتعليم، والعائلة، والقانون، ونظام سياسة الحزب، ونقابات العمال، ووسائل الاتصال والثقافة ، ويعتقد ألتوسير بأن الوعي يبنى من خلال الإيديولوجيات. فالإيديولوجيات، والمعتقدات والمعاني والممارسات التي نفكر فيها، ونعمل فيها توجد في أجهزة تكون جزءا من الدولة، فالأيديولوجيات المشكلة كأدوات السيطرة والمقاومة ليست بكل بساطة حرَة في الوجود على أساس ما تهدف إليه من تلقاء نفسها، ولكنها مطبوعة دائما بالشيء الذي تعارضه. لا توجد الإيديولوجية التي تأخذ شكلها خارج الكفاح مع الإيديولوجية التي تعارضها. إنّ مقالة ألتوسير التي أصبحت مفيدة في سبعينات القرن العشرين تتكون من قسمين. فقد أخذ بعض السوسيولوجيين الجزء المتعلق بالتكاثر الاجتماعي ووظفوه في التنظير للعائلة، أما المنظرون الآخرون فقد استعلموا القسم الثاني في التنظير للذاتية. فالأطروحة المركزية عند ألتوسير هي أن الإيديولوجية تستجوب الأفراد كذوات، وأنه من خلال آليات الاعتراف فإنّ كل أيديولوجية تخلق الناس في المكان، وتمنحهم هوياتهم.