يلعب المركز الوسطى للصحة العقلية (CISM) بولاية سيدي بلعباس دورا بارزا في التكفّل الجيّد بالحالات التي تعاني من الإضطرابات النفسية وفي ظل التّنامي المخيف لشتى الإضطرابات النّفسية وانتشار ظاهرة الإختطاف والقتل التي طالت بالخصوص فئة الأطفال ارتأينا أن نحاور المختص والمحلل النفساني الدكتور بلحيمر سعيد حول هذا الموضوع الذي بات يؤرق أفراد المجتمع لاسيما الأباء والأمهات كي نقف على الأسباب والدوافع الكامنة وراء هذه الظاهرة الغريبة على مجتمعنا وعلى الصفات التي تطبع سلوك هؤلاء المجرمين وماهي خلفياتهم الحسية والتربوية والمعرفية؟، وأي إستراتيجية يتوجب إتباعها للقضاء على الظاهرة؟... * الجمهورية: بداية ماهو التّفسير العلمي لهذه الظاهرة؟ الدكتور بلحيمر: إنّ سلوكيات البشر وتصرفاتهم هي دائما انعكاس وترجمة لطريقة تشكل بنيتهم الحسية ثم المعرفية وهذا منذ ولادتهم، فالمولود كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) «يولد على الفطرة فأبواه يهودانه.. الخ» ومن هنا فإن المولود تكون ذاته - إن صحّ التعبير - شفافة لا شائبة فيها. لا تملك إلا إستعداده وقابليته للإتصاف بكل الصّفات والتلوّن بكلّ الألوان الواردة إلى الذّات وعن طريق الحواس من المحيط والمحيط نعني به الجامد والمتحرّك. وأوّل إحساس يكوّن ذات المولود هو إحساسه بأمّه. فهي أول صورة ترسيم على ذاته، وهكذا مع باقي المكونات التي تحيط به. يتفاعل مع الذات ويشكل الأحاسيس بألوان مختلفة ثم بمشاعر متباينة ومعان شتى فقناعات ثم اعتقادات وكمحصلة صفات وسلوكات مختلفة لشخصية ما..، ومن هنا فإن السلوكات التي يكتسبها هي محصّلة لها علاقة ببداية تكوين الأحاسيس. وهكذا إذا تكوّنت الأحاسيس بشكل سوي يكون النمو سويا وكذلك السلوكات والعكس صحيح. * الجمهورية : نفهم من كلامكم هذا أن الخاطف والقاتل يعاني من مشاكل منذ طفولته؟ الدكتور بلحيمر: أجل إن ما يقارب 95% من المجرمين المرتكبين لعمليات خطف وقتل الأطفال لهم خلل في الأحاسيس الأولية والأساسية أثناء مرحلة الطفولة ممّا يجعل النموّ الحسّي والمعرفي لهؤلاء نموّا غير مكتمل وغير ناضج وهو ما يؤثر على باقي المراحل المتتابعة (المراهقة الشباب..)، وتصبح بنيتهم النفسية مصابة بالمرض لا هي سوية ولاهي متزنة. ومن هنا تتضح بجلاء أهمية المرحلة الأولى للطفل. ذلك أن تشكل الأحاسيس بالطريقة السوّية وتلوّنها بألوان متزنة في مرحلة الطفولة يعدّ قاعدة صلبة من شأنها التأثير العميق في المراحل المتتالية (المراهقة والشباب...) فالأحاسيس السوية والمتزنة هي من يكون صاحبها في طفولته على وجه الخصوص قد تشبّع بالحنان والعاطفة والإهتمام لا سيما على يد أمّه وأبيه. فالحنان في هذه المرحلة بالنسبة للطفل كحاجته للحليب إن لم نقل أهم بكثير. فالحرمان من الحليب له تأثير مباشر على الطفل فيزيولوجيا ويمكن إستدراكه بمجرّد بكال الطفل لكن غياب الحنان له تأثير غير مباشر عليه نفسيا، حيث يصعب إستدراكه لأنّ صاحبه ساكت لا يبكي فينتج عن ذلك إحباط لرغبته وتبلد لأحاسيسه. * الجمهورية: ماهي في نظركم الأسباب والدوافع لوقوع جريمة الخطف؟ الدكتور بلحيمر: إنّ الحرمان العاطفي الحادّ «Carrence affective aigue» الناجم إمّا عن فقدان الإبن لوالديه دون أن يكون لهما بديلا أو الطلاق المترتّب عنه الإهمال وعدم التكفّل. وقد تكون الظروف الإقتصادية والإجتماعية ومشاكل العمل والسكن عوامل لها تأثير كبير على الأطفال لهشاشة الآليات الدفاعية لجهازهم النفسي وعدم نقبح مناعة ذواتهم وعموما فإن كل هذه العوامل وعلى رأسها فقدان الأولياء وما ينجم عن ذلك من حرمان عاطفي حادّ وإهمال ولا مبالاة هي أسباب غير مباشرة لتشكل بنية نفسية لها قابلية لاقتراف الجرم مستقبلا. * الجمهورية: ولم يقع الإختيار على الأطفال؟ * الدكتور بلحيمر: يقع الإختيار على الأطفال لما يمثله من رمزية. وكما سبق الذكر فإن الأسباب الحقيقية والأساسية وراء اقتراف المجرم لجرمه على فئة البراءة تعود إلى خلل متميّز نشأ أثناء الطفولة أي أثناء المرحلة الأولى والمهمة لأيّ نموّ سليم ونصبح موفّق وصحيح ومن ثمّ فإن الحرمان العاطفي الحادّ والرّهيب الذي ميّز طفولة هذا المجرم حوّل الميل الطبيعي إلى نزعة مرضية والتفاعل الطبيعي إلى تثاقل آلي والألوان المتعدّدة الأحاسيس إلى أحاسيس أحادية اللون وبذا أضحى الإجرام متوقعا حدوثه بنسبة عالية خاصّة الفعل الإجرامي على الأطفال بالخطف ثم القتل وهو يحمل دلالة رمزية تفسيرها أن المجرم يقوده وعيه اللا شعوري ونزعته المرضية إلى القيام بفعل أو أفعال تعيده رمزيا إلى زمن طفولته لاستدراك النقص الذي عاشه آنذاك وتعويض الحرمان الذي عانى منه فيلجأ إلى إحدى الآليتين. 1) السعي لترميم ذاته أثناء مرحلة طفولته وذلك بإقامة علاقة صداقة ومحبّة وإيثار مع أطفال صغار لترميم نفسه المهتزة والمتهالكة وبالتالي التخلص من النقص. 2) السعي لإلغاء ذاته أثناء المرحلة الأولى من طفولته عن طريق إلغاء غيره من الأطفال بقتلهم كي يتخلّص من عقدة النقص وهو يراه بالطبع قتل لنفسه لكن بالإسقاط والتوكيل ومن هنا فإن الحرمان الحادّ لاسيما أثناء الطفولة لا يعبّر عن نفسه أثناء البلوغ بالإجرام في حقّ الأطفال فقط بل حتى بمصادقتهم والمبالغة في التعامل الإيجابي معهم، فالتعبير بالنسبة للمحروم إما بالترميم عن طريق الصداقة لإستدراك الماضي الطفولي أو بالالغاء عن طريق القتل والإجرام لإنهاء الماضي الطفولي الأليم ولو رمزيا. مع الإشارة إلى أنّ المحروم هنا سواء اللاجئ إلى الترميم أو الإلغاء يتميز بضعف شخصيته وهشاشتها وبالجبن أيضا مستعملا الإسقاط وتوكيل الغير عن نفسه في الصداقة والإجرام على حد سواء