إن علاقتي الأدبية بالأديب "مرزاق بقطاش" نبتت في رحم ثنائيته السردية "طيور في الظهيرة" و "البزاة"،وهي الثنائية التي أبان فيها عن رؤية فنية مرتكزة على عنصري العلاقة الحميمية بالذاكرة الوطنية وحرارة الانتماء وعمق معانقة الواقع الوجداني والطفح النفسي الذي كان يعتور نفسيته حينذاك. ونتيجة لكل ذلك كنت،وما زلت،أضع "مرزاق بقطاش" مع مجموعة من الأدباء،ضمن خانة الفئة المثقفة المتميزة التي صقلتها العبقرية الوطنية عبر الأزمنة و المراحل. أما بعد مشاهدتي اللقاء الذي بثته القناة التلفزيونية الوطنية "الجزائرية" تحت عنوان "بلا قيود" مساء يوم الخميس 18 ديسمبر 2014م،فقد اكتشفت شخصية أدبية أخرى للأديب الرائع الذي لم يقل كل شيء لقرائه ومحبيه في إبداعاته القصصية والروائية وحتى في الكثير من مقالاته المنشورة عبر وسائل الإعلام أو في كتابه المتميز "الكتابة قفزة في الظلام". هذا التلاقي،بين النص المقروء وبين النص المشاهد والمسموع،كان له الفضل في اكتمال وفي إبراز معالم شخصية "مرزاق بقطاش" الأدبية و الفكرية والفنية المتميزة،تميز لم يتوفر لغيره من الأدباء.ولعل من أهم ما لاحظته شخصيا في هذا التميز هو؛ أن مرزاق بقطاش قد بنا لنفسه معمارا فكريا و فنيا مستنتج ومعتصر من عمق أمته ومن مسالك دربها عبر الأزمنة ومن تحت أنقاض بقايا تاريخها المسكوت عنه في كثير من الأحيان.لقد كان "مرزاق" أصيلا في منبته وفي تنشئته وفي تكوينه وفي تشكل وعيه، حين كشف عن كثير من القضايا المتداخلة والمؤثثة لمسيرته الأدبية والفكرية،وذلك عبر الارتكازات التالية: 1 الفضاء المعيشي/ الاجتماعي/ البيئي. ويتجلى ذلك فيما ذكره(في اللقاء التلفزيوني) من تفاصيل مهمة عن بيئة أجداده وأبائه في منطقة القبائل المتسمة بخصوصية الحفاظ على النسق الاجتماعي الجزائري الأصيل،كما وجدناه يمعن في التعبيرعن هوسه و حبه للبيئة الشعبية التي تربى ونشأ فيها في العاصمة. وذلك كله من خلال إقراره الصريح بأن شخصية "مراد" في روايته "طيور في الظهيرة" هي "مرزاق بقطاش". وتلك إلماحات،لا شك،تؤكد على أن "مرزاق" كان يصدر في إبداعاته عن رغبة شديدة في المزج بين "المعيش" المتمثل في رصد كل ما عايشه في طفولته،وبين "المأمول" المحملة به كل نصوصه المبدعة وما تزخر به من دلالات و من أبعاد النص حين تتآزر مع مقاصد القارئ و مع آلياته و قدراته على الانسجام مع.
2 الممكنات المعرفية: التي قد لا يستقيم، للأديب و لا للمفكر ولا للمبدع،الأمر،كما للقارئ،بكل ما سبق إذا تقاعس عن رغبته وعن اجتهاده في مزج ذلك المعيش مع الممكن المعرفي المتداخلة عناصره،التي قد نجدها متمثلا في تاريخ الأمة،أو في الإلمام والإحاطة بالتراث بجميع أنواعه وبكل تجلياته لأمته وللمنطقة التي تنتمي إليها،أو قد يتبلور في ضرورة الالتزام بالخط المتميز لأمته في النضال وفي الحفاظ على جميل القيم،وفي العمل على نقلها للخلف وعلى ترسيخها في وعيه كعقيدة وليس كخيار. طبعا وكل هذا التداخل المعرفي ينبغي على الأديب الأصيل أن ينسج على منواله العوالم الفنية،وبخاصة الأدبية التي تتركز قيمتها وقيمها حول إغراء القارئ بالخوض في غمار المخبأ والمدسوس الاستحواذ على مكنوناته الجمالية التي تبعث على الفخر وعلى الاعتزاز وليس على اليأس وعلى القنوط. ومفاخر الاعتزاز كثيرة و متعددة في إبداعات "مرزاق"،والتي لازلت أذكر منها لقطة من روايته "طيور في الظهيرة" وهي تحمل أبعادا و دلالات عميقة جدا.وتتمثل تلك اللقطة في سؤال الطفل مراد "أمه" عن نوعين من السلوك أبداهما جنود المستدمر الفرنسي،وكانوا من السنغال؛أحد هذين السلوكين كان فيه عنف وشراسة،وكان يقوم به جنود في وجوههم ندب وجروح،أما ثانيهما فكان فيه نوع من اللين و المرونة،وكان هذا النوع صادرا من جنود وجوههم خالية من تلك الندب والجروح. فتعجب "مراد" من تفسير أمه لذلك قائلة: أصحاب الندب والجروح جنود سنغاليون مسيحيون،أما أصحاب الوجوه الصافية جنود سنغاليون مسلمون.إن مثل هذا الجواب من أم لابنها،قد لا يستساغ بسهولة و يسر إذا لم نفسح المجال، استراتيجيا، ل: 3 التداول بين تجربة المعيش و بين الممكن المعرفي: و لعل ميزة التداول هذه ،هي التي تتوفر عليها المبدعات الفنية دون غيرها من منجزات الفكر الإنساني،وذلك على اعتبار أن الفكرة أوالرؤية المنجزة من طر ف الإنسان قابلة للتبدل وللتغير مما ينفى عنها صفة التقديس وإصابة الحقيقة مطلقا، كما يفرض علينا، هذا المبدأ،كما يفرض علينا هذا الميثاق أن لا نصادر منجزات الأمة التي ننتمي إليها،وأن لا نستخف أو نجرح أو نسفه المناقضين لرؤانا ولموقفنا.وتلك مسألة مركزية في إستراتيجية الكتابة عند مرزاق بقطاش"،سواء كانت هذه إبداعية أم نقدية أم ترجمية،حيث نجده ينتقي ويختار،بذوق رفيع جدا أزاهره ويتردد في أجمل الأفنان ويسبح في أصفى الأحواض التي دفعت الإنسانية والأمة الجزائرية والنفيس من أجل رسم معالمها ورفع قممها. والعلامات والدلائل كثيرة عند "مرزاق" لكني سأقف عند بعض الإشارات من مدونته"الكتابة قفزة في الظلام". أول ما يصافح ناصيتك وأنت تطوي الصفحة الأولى من الكتاب هذه الجملة "كلمة لا بد منها". وهو عنوان يحمل الكثير لمن يدقق في المسالة؛ فهو تارة يحمل معنى الإلزام و الالتزام،وتارة أخرى يلمح إلى ضرورة التقيد بالأفيد والأصلح، ليس للأشخاص ولا للعوائل،و لكن للأمة وللوطن،وتارة ثالثة،يفيد الابتعاد قدر المستطاع عن العبث بالأدب و بالأدبية؛ وذلك مقصد نتبينه بعد إلمامنا و بعد قرائتنا للكتاب. و لعل أكثف ما سطره "مرزاق" تحت هذا العنوان الفقرة التالية "..أصحاب هذه المقالات من عظماء...كل واحد منهم يبتعد عن مملكة الإبداع لبعض الوقت... ثم لا يلبث أن يعود إليها لأنه يكون قد أحس بضيق في التنفس خارج مملكته هذه".ثم نجد "مرزاق" يشبع مدونته بهالة من الإحالات و الإشارات القممية في الأدب بشتى أجناسه وبأسمى أساطينه؛ شعرا و رواية و نقدا. ولكن الأجمل من كل ذلك أنه بايع الشاعر الجزائري الفحل "سي محند أومحند" على عرش الشعر الجزائري وسط فترة زمنية حالكة السواد بالغبن والقهر و الإذلال التي كان يسلطها المستدمر الفرنسي على الشعب وعلى الشعر الجزائريين معا،تلك المبايعة التي أرفقها بالقرطاس التالي ".. يلاحظ المرء في الثقافات المختلفة وجود نماذج من شعراء كان لعبقريتهم من التلاؤم و التوافق مع الشعوب التي ينتمون إليها أنهم صاروا لسان حالها و أعلامها عليها.."ص9".إن الذي يصنع العبقرية، في نظر "بقطاش" إذن، ليس القول الإبداعي في المطلق و في القفار وفي الأدغال الفكرية التي قد تضيع آثارها وتندثر معالمها مع أول هبة ريح، و لكنه الإبداع الحقيقي هو ذلك المضمخ بعبق الهوية الاجتماعية المنغرسة في ونخاع المبدع والمرتلة بها إبداعاته،تماما كما بناها "مرزاق" في رؤيته الإبداعية وكما مارسها وسط مبدعاته النصية وكما اقرها على "سي محند أو محند" حين يقول عنه: "..وقد شهد سي محند في الفترة الممتدة ما بين 1850و 1906م النظام الاجتماعي القديم و هو ينهار فجأة وبصورة متباطئة،و رأى بروز نظام اجتماعي جديد. و لم يكن الشاعر شاهدا على المأساة فحسب،فهو لم يعشها على الهامش،بل كانت له قلبا و قالبا بكل الوجوه، وعقله وحتى بجسده.."ص10". إن هذه الصورة المقدمة عن المجتمع الجزائري بهذه الصيغة وتناصيتها مع شاعرية الشاعر سي محند، هي الصورة الحقيقية الواقعية تاريخيا بعد أن كان الاستدمار قد بسط نفوذه العسكري والإجرامي على المواطن وعلى الأراضي والأماكن الإستراتيجية الجزائرية ولم يبق له إلا الأماكن الهشة والهامشية والقاحلة والأحراش. لقد كان من العلامات البارزة لكل ذلك تغيير استراتيجية المقاومة وتغيير آلياتها عند الذات الجزائرية، فأضحت المقاومة بعد 1890م بالكلمة والفكر وبالقم عوض المقاومة بالسلاح مؤقتا.ولعل من أبرز تداول تجربة المعيش مع الممكن المعرفي،وفق رؤية مرزاق،و حسب التجسيد الشعري ل"سي محند" نقع عليها متمثلة في المقولات الثلاثة التالية: "..نحن نوجد في بداية القرن الرابع عشر،القرن الثالث عشر(بالحساب الهجري) تقضى وانصرم،أيها العقل المتوثب النير تسمع وتدرك هذا الزمن المدهش الذي يعمل من أجل سعادة الكلاب. وأنت يا مخلوق الله ..من حطمك؟.." ص13". "..لقد صار الفلاح معازا أو عاملا فلاحيا،القبائل و العرب معا ينتقلون من ضيعة إلى أخرى ويقفون عند أبوابها بينما تغرق الخنازير(الكولون) في ضحكاتها. لقد انقلبت الحياة رأسا على عقب."ص13". البغاث يتسلط والنسور يحكم عليها بالنفي،نحن في زمن التجار الجشعين،الذين ينزلون إلى الدرك الأسفل ويقرضوننا الأموال بالربا.."ص 13. ليقيم "مرزاق" هذه المقولات الثلاثة بقوله:"..وكان يرى(سي محند) بأن انقلاب الأدوار الإنسانية هذه يقابلها تشويه للقيم.."ص14".نعم تلك رؤية مستقاة من تجارب اليوم ومن عرض هذا اليومي على التدقيق و على التعليل(التداول المعرفي) للوصول إلى النتيجة الحتمية التي تحقق منها كل البشر،وهي تلك المتمثلة في القدرة على صياغة السؤال التالي بصدق و صراحة:"..لماذا تبقى العزيمة الصادقة عاجزة في بعض الأحيان؟.."ص14". و تتمثل قدرة التصريح بهذا السؤال في لهجه لغة و صوتا،وإلا فهو باق و قار داخل كل النفوس البشرية؛ ذلك البقاء والكمون في النفوس الذي يمتهنه الأدباء والمفكرون و الفلاسفة(صفوة المجتمع)،حتى ينسجوه،مرغمين،في خطابات لغوية أو صوتية أو لونية لتقرأ قراءات تخضع للتأويل أكثر من خضوعها للحقيقة،ما عدا حقيقة واحدة ثابتة،تصريحا أو إضمارا، وهي قدرة الله الخارقة التي المصرح بها خطاب سي محند أومحند:"..إرادة الله تتحقق،فهو يغني و يفقر، ليس هناك أحد سيد على مصيره. أنت المكرم يا رب، تحيي و تميت.."ص15". وهي الرؤية التي زكاها بالعروج على قمم أدبية عالمية كان همها الأول وحضنها المقدس "المعيش/الواقع"، سواء بالتعبير عنه إعجابا و انبهارا أو بالتعوذ منه صراحة أو إلماحا. ومن هذه القمم؛ "الزاتر يوليه"ن "ماياكوفسكي" ،"أوكتافيوباز" ،"أوديسيوس ايليتيس" ،"أرنست هامنجواي" ،"وليام فوكنر"، "سرفانتس" ،"جيمس بالدوين"، "بشار كمال"، "رولان بارت". ومما زين هذا البناء، وشيد من عمق هذه الرؤية،هو إدماج مرزاق بقطاش فيها كل الأجناس الأدبية؛ شعر،السرد بأنواعه،النقد، كما كان تنويعه واضحا في اختيار نماذج هذه القمم من قارات و أمم وأيديولوجيات متنوعة،مما أعطى لمدونته ولرؤيته تشابكا وتعانقا في طرح القضية الأساس "البحث عن المعنى في مسيرتنا.." ليس وفق الاعتقاد الديني أوالأيديولوجي فقط ولكن وفق "تداولية الممكن/المعيش بالمعرفي". ووفق هذا النسج نجد مرزاق بقطاش يبني عالمه الفني؛بداية من طيور في الظهيرة،و جراد البحر، و عزوز الكابران، و خويا دحمان، وعبر "الكتابة قفزة في الظلام"(1985) ثم وصولا إلى التجربة القاسية التي كادت أن تودي بحياته وإلى آنية الحال التي،رغم توفرنا السبل المادية والبشرية غير أننا، ما زلنا بعيدين عن قيم أجدادنا، حتى أصبحنا ننفر من كل الخصال التي حمتنا من الانفصام ومن الذل ومن الهوان وبتنا نلهث وراء سراب التقليد والشهرة حتى ولو اضطرنا ذلك إلى سب وشتم أجدادنا و آبائنا والاشمئزاز من أريج ترابنا و الترفع عن ترديد كلمة "جزائري" والإحساس بالضعة حين نطقها.