عدت من قريتي نحو وهران سعيدا وحزينا في الوقت نفسه بعد قصة أيقظتني بسرعة من سبات الثقافة. قصة بدأت بمقالة وانتهت بتهديدات معلنة ومبطنة. كان يفترض أن تكون زيارتي لبلدية باب العسة خاطفة لكنها استمرت أكثر مما تصورت. التقيت بأهل قريتي والقرى المجاورة واستمعت إليهم بكل قلبي. كانوا يحملون أشياء كثيرة يريدون إيصالها إلي. شيء واحد وأساسي كان يجمعهم، الظلم المسلط عليهم في القرية من السلطات المحلية. وعدتهم أني سأكتب عن أوضاعهم. سألتني أمي وهي ترى انشغالي. واش بك يا وليدي، الناس يسألون عنك كثيرا. أجبتها وأنا أبوس رأسها كعادتي. لا شيء يا أمي. سأكتب فقط عن هؤلاء التعساء الذين لم يبق أمامهم إلا التهريب أو الموت. سأكتب عن القرية وأنشر مقالة عنهم في الجمهورية. أمي لا تعرف تفاصيل الأشياء، ولا تعني لها كلمة جمهورية الشيء الكثير، سوى أنها سمعت أحاديث غريبة ضمتها إلى صدرها قبل أن تشركني فيها. يقولون يا وليدي أن الشيوعية سرقتك؟ بست رأسها مرة أخرى. وقلت لها يا يما لم يسرقني أحد، أنا أمامك. ثم سألتني واش معناها شيوعي؟ قلت لها يا يما لا أعرف بالضبط، لكني مثل المرحوم والدي، أرفض الظلم والحقرة فقط. هو حمل السلاح واستشهد، وأنا مثله قليلا، أرفض أن يسرقوا منا أرضا نحبها، مات آباؤنا من أجلها. قالت بعد أن تنفست الصعداء. الحمد لله يا وليدي. خفت تكون كما هاذوك اللي ما يامنوش بربي والرسول. ضحكت وضحكت معي، وقلت لها: يا يما مشكلنا مش مع السماء، السماء بعيدة علينا، ولكن مع الأرض. هذه الأرض التي نمشي عليها ونعيش منها. عرفت منها لاحقا أن أحد الأقاربن رحمه الله وسامحه، من المنضوين في الحركة الطلابية الإخوانية في الجزائر، هو من أفهمها ذلك. قلت لها راح نكتب يا يمّا على اللي يبيعوا ويشريوا على ظهر الناس. نكتب على المناطق الحدودية المهملة أو ما كان يسمي وقتها عند بعض المسؤولين العاصميين: الجزائر غير النافعة. عن المهربين ليس الصغار، هؤلاء كانوا ضحايا للأسماك الكبيرة التي تبلع كل شيء. عن الاسمنت والحديد المخصص لبناء مساكن للفقراء، فسرقوه وباعوه أو هربوه من وراء الحدود، بتواطؤ كبير مع السلطات المحلية والمصالح البلدية. كانت تلك أول مرة ألتفت فيها إلى هذا الموضوع كتابة. نبهني إليه أصدقائي القدامى في القرية، من أبناء سيدي بوجنان، والسواني، ومغاغة، وباب العسة، ومرسى بن مهيدي (بورساي). كانت زيارتي مفيدة، وسمعت ما كان يخبئه الناس في قلوبهم. أخبروني بالتفاصيل الصغيرة عن الذين يذهبون ليلا بشاحناتهم ويملأونها مباشرة من السفن الراسية في ميناء الغزوات، بالمواد الأولية من زيت، وسكر، وحليب جاف، قبل أن يتسلطوا على البيض الذي كان يتم تصنيعه خارج الحدود في شكل شامبو. شاحنات تشق طريقها ليلا نحو الحدود ولا من يوقفها ويسجن أو يقتل طفل هرب قطعة قماش أو برتقالا أو خضرا. كل المواد التي كانت تهرب من ميناء الغزوات أو من الدكاكين المجاورة، كانت مدعمة من الدولة. في وقت لا يوجد في القرى لا حليب ولا سكر ولا زيت وتحتاج إلى واسطة حقيقية مع الحوانتية لتجد قليلا منها. أخيرا كتبت تلك المقالة الموعودة احتراما لسكان امسيردا ولعشاش. كانت الأولى والأخيرة بذلك الشكل المباشر. نُشِرت في الصفحة الوطنية للجمهورية، لأنها ببساطة لم تكن ثقافية. عنوانها كان: ماذا يحدث في بلدية باب العسة وضواحيها؟ كان مركز بلديتنا وقتها هناك. لم أندهش في حياتي من مقالة كتبتها، مثل تلك المقالة التي لم تكن أساسية بالنسبة لي سوى التعبير من خلالها عما كان في قلوب الناس الطين كانوا في كل مرة يكررون نفس الكلمة: كيفاش أنت صحفي من قريتنا ولا تكتب عنا؟ طبعا لم أكن صحفيا، ولكن طالبا وجد عملا في جريدة أحبها بسرعة: الجمهورية. انتشر الخبر كالنار في الهشيم: واسيني يفضح السرّاقين؟ لدرجة أن أمي طلبت مني أن أعود إلى وهران أأمن لي. طمأنتها بأننا لسنا في غابة. جاء الدرك الوطني حتى البيت وسألوني إذا كان فيه مشكل ما مع البلدية؟ قلت لا، أبدا. قال لي البريغاديي: سيد واسيني، ما قلته خطير جدا. أجبته. لم أكن إلا وسيطا بيني وبين الناس. هذا كلامهم. مستعدون أن يذهبوا حتى المحاكم. فجأة أصبحت سيارة الدرك محاطة بأكثر من أربعين شابا. قال أحدهم للبريغاديي: مستعدين نروح معه حتى المحكمة. في مساء نفس اليوم، جاءني صهري يتوسط بيني وبين رئيس البلدية. قلت له لا مشكلة بيني وبينه. أنا لم أفعل شيئا ولم أتهم أحدا ولكني تحدثت عن منطقة مهملة غدا ستصبح مرتعا للقتلة أو لكبار المهربين إذا لم يتم الاهتمام من الآن بالناس. صمت قليلا وقال لي بطيبته المسيردية المعهودة: رئيس البلدية يريد أن يحكي معك، ويقول لك إذا تحتاج الإسمنت والحديد لتحسين بيت الوالدة، ممكن، هي زوجة شهيد وعندها حق. ضحكت. قلت له الحمد لله مستورين ولكن ليس هذا غرضي. هناك أناس في عيش أسوأ منا. وأعطيته قائمة لنساء الشهداء يعيشون في العراء. في المساء نفسه كانت سيارات البلدية تحظ الرمال والاسمنت والحديد أمام بيوتهن الهرمة المتهالكة لإعادة بناءها وفق برنامج كانت الدولة قد سطرته قبل سنوات، لكنهن كن آخر المستفيدات. صديق لي من القرية ضحية الظلم، اشترى يومها عشرين نسخة من جيبه، وزعها على أصدقائه. لم أكن اعرف أن مقالة عادية، توصّف حالة الظلم في منطقة من المناطق الأكثر فقرا في جزائر النفط والغاز والخير ومليون ونصف المليون من الشهداء، تحدث كل ذلك الرعب في نفوس المسؤولين الهشة. أدركت يومها أنه ما يزال للصحافة قوة، وأنها تخيف أيضا، وأن الكتابة وفضح الظلم هما جزء من مهمة الصحفي. كانت مقالتي الوحيدة التي خرجت فيها من السياق الثقافي، واتجهت نحو الناس ونحو ما يفهمونه بسهولة، لكني ظللت واعيا دوما أنها لم تكن مهمتي، وإلا لاخترت الصحافةن على الرغم من أنهم كانوا يسمونني الجورناليست. تأكدت يومها أيضا أن الجمهورية كانت جريدة مقروءة وصوت الذين لا صوت لهم. كان يكفيني أنها أصب