الربيع في وهران يعلن عن نفسه بعطر بحره وورده ولوزه ونسائه، كل شيء يتفتح فيه دفعة واحدة، ويجعل الحياة شهية وتستحق أن تُعاش، الوهارنة يعرفون ذلك جيدا، لهذا يأسرني هذا الفصل ويزيد شهيتي للعمل، أبْلغْتُ قبل يومين رئيس تحرير جريدة الجمهورية محمد الصالح برغبتي للكتابة عن مسرحية علولة الخبزة، التي كانت الجامعة تتهيأ لاستقبالها بعد سنوات من الدوران في الجزائر، أعطاني الضوء الأخضر، الحقيقة، لا هو ولا المدير عيسى عجينة، وقفوا يوما في وجه أية مقالة من المقالات، حتى تلك التي تتناول قضايا حساسة وقتها، وكثيرا ما تسببت بعض المقالات الثقافية والسياسية والاجتماعية على وجه الخصوص، في مشكلات حادة بين المدير والوصاية، إضافة إلى الحزب الذي كان يلعب دور الرقيب أكثر منه جهازا لحل مصاعب الحياة للشعب، كعادتي أيام الربيع، أتحول إلى رجل صباحي أكثر من اللازم، أفتح عيني على موسيقى الفصول الأربعة لفيفالدي، عندما مررت باكرا على الجمهورية في ذلك الصباح الربيعي، لم أجد أحدا هناك، ما عدا الحارس والمنظفة و المسؤول عن الأرشيف الذي سألته عن مواد كنت قد طلبت منه تحضيرها لي، كان من بينها العديد من المجلات العربية والعالمية، لا أتذكر منها اليوم إلا مجلة " البلاغ " ذات الطابع السياسي التي كانت تدخل إلى الجزائر بسهولة، مزينة دوما بصفحة الغلاف الخلفي وكراسة كاملة في الوسط، بإشهار السوناتراك، وضعت الوثائق التي سلمها لي مسؤول الأرشيف في غرفة التحرير، وخرجت من جديد نحو مقهى المسرح، أنتظر المسرحي الكبير عبد القادر علولة، وجدته ينتظر بقهوته الحادة والموز، وسيجارته ، كنت أريده أن يحدثني عن مشقة العمل في إنجاز مسرحياته، بالخصوص " الخبزة " التي ارتبطت بقوة بحياة الفقراء، أنجزها في 1970 عن اقتباس من نص لتوفيق الحكيم : طعام لكل فم ، ومثلها في مواقع عديدة ، عندما سألته عن فكرة العلاقة مع الجمهور والمسرح في وضع حياتي صعب جسدته المسرحية بامتياز، ضحك وقال بصوته القوي: شوف يا صاحبي. أنا نحب الزوالية بزاف، ونكتب عليهم وندير عليهم المسرح. هذا خيار، وموضوعاتي هي جزء من هذا الخيار الذي سلكته في حياتي، وهذا ما يعجبش شلّا ناس، وعندما سألته ألا يخاف من تسيد المسرح الأيديولوجي؟ أجاب: أخاف من شيء واحد في هذا، هو أن تتحول مسرحياتي إلى مجرد خطاب أو صدي ميتا للسياسي، هذا أرفضه ، المسرح من سوفوكليس وأريستوفانيس وشيكسبير رفض الانتساب إلى الخطاب المهيمن، بل كثيرا ما انتقده بشدة، لسنا مسرحا للسلطة ، حتى سلطتنا والحمد لله مبتئسة، لا يوجد في رأسها لا فن ولا موسيقى ولا مسرح ولا سيدي زكري، ثم ضحك ضحكته الرعدية، الخبزة هي رغبتي في القول والانتساب إلى الفقراء الذين يظلون يركضون لتغيير حياتهم في عالم شديد القسوة، من يتحدث عن حياة هؤلاء الناس البسطاء غيرنا؟ يومها طرح علولة إشكالية الشكل المسرحي وضرورة استجابته لحاجيات الفرجة الشعبية. وجهود بريخت الذي كان يشكل له علامة في المنجز المسرحي. قال: نختبر شكلا مسرحيا يكون قريبا من الناس ويعتمد على حكاياتهم وحيواتهم وأشكالهم التواصلية التي ابتدعوها عبر القرون، ثم سألني عن رأيي في الخبزة التي كنت قد رأيتها في مدرج 19 ماي، بجامعة السانية ، قلت له مسرحية جيدة، لكن للأسف الركح لم يكن مناسبا لها، شعرت كأن الممثلين كانوا يحتاجون إلى اتساع أكثر، أجاب: كل الأمكنة طبيعية ومناسبة في هذا النوع من المسرح،المهم استعدادات الممثلين وقدراتهم على الالتصاق بالحياة حتى يبدون طبيعيين، المايدة مثلا، مثلناها في الخلاء، مع الفلاحين وكانت الاستجابة الشعبية قوية، عندما انتهيت من إنجاز حديثي معه، ذهب هو إلى المسرح، بيته كما يسميه، واتجهت أنا إلى الجمهورية التي لم تكن تفصلني عنها بلاص دارم (ساحة السلاح)، وجدت شيئا يشبه الفوضى، فهمت السبب بسرعة،قيل لي إن مسؤولا من الحزب جاء يبحث عن المدير ورئيس التحرير، ويبدو أن الأمر يتعلق بمقالة انتقدت الممارسات السلبية، وتسلط الحزب على الحياة كلها، عندما خرج المسؤول كان مثل المطرود يتمتم ، لكن صوته وصل إلى بعض الصحفيين: هذه صحيفة وإلا خلية شيوعيين؟ خرج بعده مدير الجريدة، كان وجهه أحمر وهو يقول كعادته: حبوا ياكلونا بعدما كلاوا البلاد، لم أعلق، انزويت في الجهة اليمنى وبدأت أفرغ التسجيلات وأكتب المقالة عن " الخبزة " وبعض الملاحظات عن " حمق سليم " المقتبسة عن إحدى قصص غوغول: يوميات مجنون، عندما انتهيت، سلمت المقالة وخرجت بسرعة، كان صديقي المرحوم " محمد براندو " يريد أن يعطيني بعض التفاصيل عن المعركة، لكني أفهمته أن لي موعدا جميلا، غمزته وغمزني، في الطريق، في الخط7 المتجه إلى الكميل، لم أتذكر شيئا، ولا حتى المعركة، بقي في رأسي فقط ذلك اللقاء الصباحي مع رجل منح حياته كلها للمسرح، علولة، يوم اغتيل علولة في 10 مارس 1994 ظلما وقهرا، تذكرت هذا اللقاء، وعندما زار العاصمة، في أحد عروض أرلوكان خادم السيدين 1993، اقتباس حر لقصة غولدوني، التقى بي في ديدوش مراد وكانت الجزائر تعيش رمادا غير مسبوق، قال وهو يضحك: لا ينفع معك التنكر يا لافامي، لازم تنقص شوية من رجليك حتى لا يعرفك أحد، هذه ليست حياة يا واسيني، أخرج، غادر وأكتب، أنت لا تحتاج إلى أكثر من قلم وقليل من الورق، سألته: وأنت يا كادر خويا لماذا لا تخرج؟ أجاب بيقين وصفاء ذهن.: لو كنت أستطيع أن أحمل المسرح على ظهري ما ترددت لحظة واحدة ،لكن الله غالب، قيمة الفنان ليست في موته، ولكن في نبل استمراره، بصّح بلا ما يقلب الفيسته هههه ثم ضحك ضحكة انفجارية ومضى نحو قدره التراجيدي الذي صنعته ليلة رمضانية قاسية، في 10 أكتوبر من سنة 1994.