يحتار المرء في الوصف الأنسب للمرحلة الحالية، هل هو: الفوضى الخلاقة ؟ أو الشرق الأوسط الجديد ؟ أو الحرب بالوكالة ؟ أو حرب سنية – شيعية؟ أم هو ترتيب موازين القوى بشكل جديد تعتبر الفوضى إحدى وسائله؟ أو كل ما سبق؟! وفي كل الأحوال فإن المسرح يعد الآن لسيناريو تجريبي لواحدة من حروب الجيل الخامس للحروب العالمية بالوكالة، والغريب أن كل حروب المنطقة بتمويل عربي، ولا يوجد منتصر فيها إلا “إسرائيل”؛ التي تمهد السبل لكي تسقط جميع القوى الإقليمية في الكمين المعد بمهارة. إذن فإن أي كلام أهوج عن الحرب ضرره أكثر من نفعه؛ ذلك لأن معركة مصر الأساسية هي البناء وجذب الاستثمارات، ويمتلك هذا البلد قيادة عاقلة ورشيدة تعرف متى تتخذ القرار؛ بمعنى أننا لدينا تجارب تاريخية تحصن صانع القرار من الجرجرة لحرب لا نختار ميدانها وتوقيتها. وقد كانت ردود الأفعال حول مقتل قاسم سليماني كاشفة، وتحدد بدقة ملامح كل مقاولي الهدد والتدمير والتقسيم والفتنة في المنطقة، بداية من أردوغان وتميم، مرورًا بحسن نصرالله وحماس والحشد الشعبي ومقتدى الصدر والحوثيين والإخوان وأتباعهم والمتعاطفين والمؤيدين لهم، وبعض غربان اليسار الذين وصفوه بجيفارا المنطقة، وصولا للمقاول الفسل الهارب محمد علي، الذين يسعون لجرجرة المنطقة لفوضى شاملة. فالأتراك يرون أن مشروعهم للتمدد يصطدم بمصر التي لا تستخدم أدوات الحروب غير المباشرة؛ فهي القوة الإقليمية الوحيدة التي لا تمتلك ميلشيات مثل إيران وتركيا، لكن لها أدوات أخرى رادعة ناعمة مثل (الأزهر)، وطوال الوقت يريدون حصارها وإثارة الفوضى بها، من جزيرة سواكن (أيام الإخواني البشير)، ليبيا، تعز باليمن، الصومال؛ لذا فطرابلس في غاية الأهمية؛ خاصة أن مصر موجودة الآن بسوريا، وخلف التحالف باليمن، ومع الجيش الليبي الذي حرر سرت وعدة مدن أخرى، وعلى أبواب طرابلس، وموجودة بقوة في شرق المتوسط، وفي اتفاقيات الغاز مع اليونان وقبرص.. وأردوغان بقواته لا يستطيع الاقتراب من حدود ليبيا؛ لأن البحرية المصرية وسلاح الجو المصري متواجدون، وكذلك اليونان “قافلة عليه”، حاول المناورة والدخول عن طريق تونس، ولكنها رفضت وأخبرته أنها ليست وكيلًا لمغامراته التي تشبه كيد النسا. وهذا يكشف أن من يملك القوة يملك الردع، وقد تغنيه عن الدخول في أية حروب، وقد أصبحت البحرية والطيران يؤمنان مياهنا الإقليمية والاقتصادية، وحقول الغاز. ولأن البحرية المصرية الأقوى في دول حوض المتوسط كلها، والسادسة على العالم، وأردوغان يعرف ذلك فلن يقترب، ولكنه سيحاول وهو يعتقد – إن لم يكسب – فقد يضمن مقعدًا حين تبدأ مفاوضات الاستقرار في المنطقة. ومن المعلوم بالضرورة لجميع الأطراف، أن أنقرة ستحقق مجموعة من الأهداف السياسية والأمنية والاقتصادية حال تمكنها من السيطرة على ليبيا.. أولا تكوين جيوب لمقاتلين إسلاميين متطرفين يمكنها استخدامهم لإعادة إحياء مشروع الإسلام السياسي، وتستخدم ذلك لتهديد مصر والضغط عليها. كما ستسيطر على خامس احتياطي نفطي في العالم (تقدر الاحتياطيات الليبية ب74 مليار برميل من خام النفط عالي الجودة)، بالإضافة إلى الضغط على منتدى غاز شرق المتوسط وتحقيق سيطرة جيوستراتيجية، غير أن الأحوال الداخلية لكل الأطراف الفاعلة في المنطقة لا تسمح لها بالدخول في أي مغامرة عسكرية تستنزف مواردها. ولكن حين تضيق الخيارات تقترب الأخطار، وفيما يبدو فإن فرص الحرب قد تكون أقل من توقعات الذين يبشرون بها، فإيران في مأزق، وأمريكا أيضًا لا تريد الحرب، وبالدرجة نفسها إيران، ولا خيارات كثيرة أمام إيران سوى الرد على مقتل سليماني، بما لا يتجاوز حدود المساس بمشروعها الفارسي التوسعي، أو زعزعة نظامها الحاكم. وأمريكا لن تصمت على الرد الإيراني، خصوصًا إذا كان قاسيًا؛ لأن ترامب يصعب عليه طرق أبواب الانتخابات بمعركة تكبد بلاده أية خسائر بشرية، وإيران تريد فك قيود الحصار والعودة لطاولة المفاوضات التي لم تخسرها قط – كما غرد ترامب. وبين هذا وذاك يظل عود الثقاب مشتعلًا، وفي هذا المناخ تصبح وظيفة الإعلام هي إيقاظ الوعي الحر، ووظيفة الدين هي إيقاظ الضمير الحي، فإذا تم توظيف الإعلام لغير ذلك، وإذا تم توظيف الدين لغير ذلك، فقل سلامًا على العقل والضمير والمنطقة بأسرها!!. الأهرام المصري