هضم النفس والتواضع: خلق كريم، وخلة جذابة تستهوي القلوب، وتثير الإعجاب والتقدير. هو خلق بين خلقين، وقصد بين تفريطين، ووسط بين طرفين.. والممدوح منه ما كان متسما بالقصد والاعتدال؛ لأن الإفراط فيه داع للخسة والمهانة والتفريط فيه باعث على الكبر والعجب. وقيل في معناه: هو احترام الناس حسب أقدارهم وعدم الترفع عليهم. وسئل الحسن البصري: أي شيء التواضع؟ قال: يخرج المرء من بيته فلا يلقى مسلما إلا ظن أنه خير منه. وهذا ما كان يفعله مطرف بن الشخير حيث يقول: “والله ما رأيت أحدا من المسلمين إلا ظننت أنه خير مني: إن كان أكبر مني قلت أطاع الله قبلي وعبده أكثر مني، وإن كان أصغر مني قلت عصيت الله أكثر منه”. وفي مسند الشهاب عن عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ”. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله]. وقد جاء في كتاب “إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان” للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله أن أصل هذا الباب مراقبة النفس ومحاسبتها والاطلاع على عيوبها، فمن اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى. وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا”. وقال مطرف بن عبدالله: “لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس”. وقال بكر بن عبدالله المزني: “لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم”. وقال أيوب السختياني: “إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل”. ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبدالله! أليس قد أمنت مما كنت تخافه، وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك. وقد ذكر جعفر بن زيد: أنه راقب صلة بن أشيم ليلة، فصلى الليل حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: “اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار فإن مثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة”. وقال محمد بن واسع: “لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي”. وأثنوا على داود الطائي يوما فقال: “لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا”. وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجُرّها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغرورا.. ومن نظر إليها باستحسان شيئ منها فقد أهلكها. وكل هذا منهم رضي الله عنهم من باب التواضع وهضم النفس، وقد تعلموا هذا من السابقين الأولين من أصحاب النبي الكريم، فقد كانوا أفضل خلق الله وأكثرهم تواضعا لربهم عز وجل: جاء في [كنز العمال: 35704] عن الأصمعي قال: “كان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون”. وفي تفسير ابن أبي حاتم عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله}[ فاطر:32] فقالت: يا بني هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم”.. فجعلت نفسها معنا رضي الله عنها وأرضاها. وفي معجم الطبراني ومسند أحمد عن مسروق قال: دخل عبد الرحمن “يعني ابن عوف” على أم سلمة رضي الله عنها، فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا]. فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له: اسمع ما تقول أمك، فقام عمر رضى الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قالت: لا.. ولن أبريء بعدك أحدا”. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما أرادت ألا تفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة. ..التواضع من صفات الصديقين ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل. قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا منذر عن وهب: أن رجلا سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه واعترف بذنبه، فأتاه آت من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إلى من عملك فيما مضى من عمرك. وفي الزهد أيضا عن قتادة: قال عيسى بن مريم عليه السلام: “سلوني فإني لين القلب، صغير عند نفسي”. وفيه: “كان داود عليه السلام ينظر أغمض حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم (أكثرها تواضعا ومسكنة)، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين”. لقد نظر هؤلاء الصالحون الصادقون في حق الله عليهم فعظموه وقدروه، ثم نظروا بعد ذلك في نفوسهم فعلموا عوارها وضعفها وعجزها عن القيام بحق الله؛ فأورثهم ذلك مقت نفوسهم والإزراء عليها، فتخلصوا من العجب ورؤية العمل؛ ففتح لهم باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربهم، وعلموا أن النجاة لا تحصل لهم إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.. فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. حتى قال سيد المتواضعين عليه افضل الصلوات وأزكى التسليم كما في الصحيح: [لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته](رواه البخاري ومسلم). تواضع تكن كالنجم لاح لناظر .. .. على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه .. .. إلى طبقات الجو وهو وضيع فأقبح شيء أن يرى المرء نفسه.. .. رفيعا وعند العالمين وضيع