منذ أن بدأت حالة الاستقطاب الراهنة بين الولاياتالمتحدةوالصين، والتي تسارعت وتيرتها عقب بدء جائحة كوفيد-19، بدأ معها سيل من الكتابات حول دخول النظام العالمى حربا باردة جديدة . وبدأت دوائر صنع القرار فى الدول النامية الاستعداد لهذه المرحلة، وطُرحت فى هذا السياق تساؤلات عدة، جوهرها ما هى السياسات الأمثل للتعامل مع هذه المرحلة؟ بعيدا عن حالة التسييس التي تمت ل جائحة كوفيد19 ، فإن القول بأن النظام العالمى على أعتاب حرب باردة جديدة لا يفتقد إلى بعض المؤشرات والأسانيد الموضوعية، منها التحول فى موازين القوى بين الصينوالولاياتالمتحدة، على المستويين الاقتصادي والعسكري، ما أدى إلى تراجع فى حجم الفجوة القائمة بينهما، الأمر الذى دشن لنقاش واسع حول مستقبل العلاقة بين الولاياتالمتحدة كقوة مهيمنة على نظام أحادي القطبية منذ نهاية الثمانينيات، والصين كقوة «صاعدة». بعض نظريات العلاقات الدولية ذهبت إلى أن مثل هذه المراحل فى تطور النظام العالمى تنتهي حتما بمواجهة عسكرية، سواء بمبادأة من القوة المهيمنة للحفاظ على حالة الهيمنة، أو من القوة الصاعدة لتشكيل نظام عالمي جديد. لقد ارتبطت الحرب الباردة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بظهور تكتلين رئيسيين؛ كتلة شرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، فى مواجهة كتلة غربية بقيادة الولاياتالمتحدة. كما تم استحداث أبنية مؤسسية لإدارة هذه الحرب، كان أبرزها حلفي ناتو ووارسو. وسعت كل كتلة إلى الحفاظ على تماسكها الداخلي عبر إدارة مشروع لتكامل اقتصادي بين وحداته. شيء ما يحدث حاليا فى هذا الاتجاه. من ذلك – على سبيل المثال – إعادة تعريف مسرح السياسة الدولية فى آسيا؛ فعلى العكس من العديد من الأقاليم التى عانت من الحرب الباردة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، شكل مفهوم آسيا- المحيط الهادئ مفهوما جامعا للقوى الدولية والإقليمية فى أقاليم شرق وجنوب شرق آسيا، والأمريكتين، وأوقيانوسيا، وانتظمت حوله حزمة من المبادرات والسياسات التعاونية، و مشروعات التكامل الاقتصادي . كما استند إلى مجموعة من القيم المهمة، على رأسها حرية التجارة ، و حرية الملاحة ، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، واحترام حق شعوب المنطقة فى اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية.. إلخ. السنوات الثلاث الأخيرة شهدت تحولا ملحوظا عن هذا المفهوم واعتماد مفهوم الإندو- باسيفيك كمفهوم بديل لآسيا- المحيط الهادئ. هذا التحول جاء بفعل جهد قامت به الدبلوماسية اليابانية ومراكز فكر قريبة من صانع القرار فى الهند واليابان وأستراليا والولاياتالمتحدة. تبع ذلك تبنى هذا المفهوم بشكل رسمى من جانب الدول الأربع، وتضمينه وثائقها الأساسية، ثم طرح إستراتيجيات محددة للتعامل مع المنطقة وقائمة التحديات المشتركة. دوافع عديدة وقفت وراء هذا التحول، لكن القاسم المشترك بين القوى الأربع هو المسألة الصينية ، خاصة بعد تجاوز النفوذ الصينى منطقة آسيا- المحيط الهادئ ليشمل أيضا منطقة المحيط الهندي، سواء عبر إنشاء قواعد عسكرية، أو عبر الامتيازات التى حصلت عليها الصين داخل عدد من الموانئ البحرية المهمة، أو عبر المكون البحرى لمبادرة الحزام والطريق. الأمر لم يقتصر على إعادة تعريف مسرح الحركة المشتركة لهذه القوى الأربع، لكنه شمل أيضا استحداث أبنية جديدة، أبرزها الحوار الأمنى الرباعى الذى انطلق فى نوفمبر 2017، حيث المسألة الصينية قضيته المركزية. المؤشرات السابقة، وغيرها، تدعم القول بأننا على أعتاب حرب باردة جديدة، لكن فى تقديرى أنها ليست كافية للانحياز إلى هذه الفرضية، ومازال هناك العديد من الشروط المفقودة أو السياسات الدولية التى تحول دون انتقال النظام العالمى إلى حالة الحرب الباردة. أول هذه العوامل يتعلق بعدم وجود توافق دولى حول المسألة الصينية . الولاياتالمتحدة واليابان حسمتا تكييفهما للصين على أنها مصدر تهديد، لكن ليس هذا هو موقف حليفيهما الآخرين: الهند وأستراليا، إذ مازالت كلتاهما ترى خطرا فى استبعاد الصين بشكل كامل من الأبنية والأطر الدولية، بما فى ذلك داخل الإندو- باسيفيك. ويفسر ذلك الطابع الفضفاض لصيغة الحوار الأمنى الرباعى حتى الآن. الموقف ذاته تتبناه دول جنوب شرقى آسيا (منطقة القلب فى الإندو-باسيفيك). ورغم تماهى قوى أوروبية مع بعض السياسات الأمريكية تجاه الصين، فإنها مازالت ترى فى الأخيرة عامل استقرار مهما فى النظام الاقتصادى العالمي. هذا الموقف المتباين من الصين يرجع إلى حجم وشبكات المصالح الدولية التى تشكلت خلال السنوات الأخيرة حولها. الحزام والطريق – بمكونيها البرى والبحري- والتى أضحت جزءا من السياسات الدولية التى يصعب إجهاضها، تقدم مثالا على ذلك. كما تقدم المجموعات الاقتصادية (مجموعة العشرين، ومجموعة بريكس)، والمؤسسات المالية متعددة الأطراف (البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية) أمثلة إضافية على ذلك، الأمر الذى يعنى فى التحليل الأخير صعوبة نجاح الولاياتالمتحدة فى تشكيل كتلة دولية حقيقية ومتماسكة حولها فى مواجهة الصين، ذلك أن عدد المستفيدين، وحجم المكاسب المتحققة من الصعود الصينى فى مختلف الأقاليم لا يساعد الولاياتالمتحدة على ذلك، أو الترويج لفرضية أن الصين تمثل تهديدا حقيقيا للنظام العالمي. ولا يقل الأمر أهمية على المستوى القيمي، ففى مواجهة العودة الأمريكية القوية إلى الأحادية والمنهج الثنائي، والتراجع عن تعددية الأطراف و حرية التجارة والعولمة، فإن الخطاب الصينى مازال يعلى من هذه القيم فى إدارة العلاقات الدولية. خلاصة القول، إننا إزاء مرحلة شديدة التعقيد والغموض، لا يمكن إخضاعها للاقترابات الدولية التقليدية، أو على الأقل يجب عدم التسرع فى إصدار أحكام نهائية بشأنها. الأهرام المصري