إعداد: د. فاروق طيفور مدير مركز المنظور الحضاري للدراسات الأفرو–آسيوية والسياسات البديلة / الجزائر للموضوع مراجع ستنشر في آخر البحث. ومع تنامي القوة الصينية، انقسم الجدل الأمريكي حول كيفية التعامل معها إلي تيارين، يري أحدهما أن القوة الصينية في طريقها للتفوق علي القوة الأمريكية، مما يجعل الصعود الصيني تهديدا للولايات المتحدة، وسببا لعدم الاستقرار العالمي، بينما يرى التيار الآخر استمرار تفوق القوة الأمريكية، وعدم قدرة الصين على اللحاق بها في وقت قريب، في هذا الإطار، بدأ توماس كريستنسين كتابه (التحدي الصيني .. تشكيل خيارات قوة صاعدة)
برفض كل من التيارين. فعلى الرغم من اتفاقه على أن الصين لا تمثل ندا للولايات المتحدة، فإنه يرى أن صعودها يفرض عليها تحديات.
* المقاربة المنهجية لفهم حالة أمريكا–الصين: في كتابه "الرجل، الدولة والحرب" ذائع الصيت، يرى كينيث والتز، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا، أن طبيعة النظام الدولي هي التي تحدد ممارسات الوحدات السياسية المكونة لهذا النظام. كما يرى والتز، أن ذلك المكون الفوضوي للنظام الدولي يجعل من حالتي السلم والحرب أمور غير ممكنة التوقع وأنه بنشوب الحرب فلا يستطيع أي طرف إيقافها نظرًا لعدم وجود يد طولى وسلطة مركزية عليا سواءً داخل الدولة المحاربة قادرة على إخضاعها أو في النظام الدولي قادرة على استنصات الجميع (وهذه النقطة تعتبر إحدى الركائز الأساسية للنظرية الفوضوية اللاسلطوية).
في ذات الإطار يرى جون ميرشايمر في كتابه "تراجيديا سياسات القوى العظمى"، أن التسليم بعدم القدرة على الإطلاع على النوايا والسيطرة على مخاوف الدول الإقليمية من محاولات القوى المهيمنة إقليميًا للسيطرة عليها يدفعنا إلى فهم المكونات الدنيا للبيئة الدولية التي يشوبها الاضطراب وعدم التيقن. وفي الكتاب ذاته وفي الإطار نفسه، تحدث ميرشايمر عن صعود الصين وتأثيراته على الحالة الأمريكية وعلى النظام الدولي في المحصلة النهائية؛ حيث يرى أن صعود الصين كقوة عظمى أمر حتمي ما دام اقتصادها متعافٍ وعلى مسار النمو. وهذه القوة الاقتصادية، في رأي الواقعيين البنيويين الذين ينتمي إليهم ميرشايمر، لابد وأن يتم تحويلها إلى قدرة عسكرية في وقت غير معلوم في المستقبل، تمامًا كما حدث مع الولاياتالمتحدة. وتلك السردية التي تقوم على أساس موجودات نظرية الواقعية البنيوية Structural Realism تلقي احترامًا كبيرًا في الغرب لاسيما على الساحل الشرقي الأمريكي، على الرغم من انتقادات لها من قبل الليبراليين لا زالوا على اقتناعهم بأهمية الفواعل من غير الدول (كالمنظمات الدولية والمنشأت الدينية والاجتماعية والاقتصادية) في صياغة مفاهيم السلم والتعاون الدولي.
وإذا أخذنا انتقادات النظرية الليبرالية في العلاقات الدولية في الاعتبار، فإننا نرى أن الواقعية البنيوية هي الأصلح فعلا لفهم الحالة الصينية ومآلاتها نظرًا لبعض الاعتبارات:
أولا- أن الواقعية البنيوية تنظر إلى الدولة باعتبارها اللاعب الأساس في النظام الدولي وهذه الحالة تنطبق تمامًا على الصين نظرًا لاحتكار الدولة لمعالم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك وعدم وجود دور لأي لاعب من خارجها (مؤسسات كانت أو أفراد).
ثانيًا- أن الدول تبحث عن الحد الأقصى من القوة والأمن للحفاظ على سيادتها وتحقيق متطلبات السيطرة والتحكم القومي في الداخل والخارج. ومطلب الأمن بالنسبة للصين شديد الأهمية سواءً في الداخل المضطرب بسبب قلاقل عرقية أو فساد إداري متفشي أو في الخارج، حيث الحاجة الماسة لضبط الحدود والسيطرة على البحار القريبة. ثالثًا- أن تلك النظرية تنظر لمفهوم "البقاء" على أنه أمر هام في توجيه سلوكيات الدول الكبرى تحديدًا. وتطبيقًا على حالة الصين، فإن استمرار الدولة الصينية هو الذي يضمن لها عدم عودة عقود الإذلال والخضوع التي قاسوها مع الأوروبيين واليابانيين منذ حرب الأفيون الأولى وحتى الحرب العالمية الثانية والغزو الياباني للأراضي الصينية، وهذه الدولة لن تستمر عادة إذا لم تستجيب لتوسعة المجال الحيوي للفعل الصيني الخارجي.
وهذا المجال لابد وأن يكون في البداية مجال إقليمي قبل أن يأخذ صفة الدولية (Internationality). وعلى اعتبار حدود الصين البرية والبحرية المترامية، فإن الصين في خضم مسعاها للاستجابة لمجالها الحيوي الإقليمي ستكون مضطرة للسيطرة على البر الأسيوي بكامله بالإضافة إلى القطاعين الشمالي والأوسط من الشطر الغربي من المحيط الهادئ ومضايقه وبحاره الإستراتيجية كالبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، لكن الولاياتالمتحدة لن تسمح بذلك، فواشنطن التي تغولت وتوغلت في الشؤون الإقليمية حتى باتت لاعبًا أساسيًا في كل أقاليم العالم لا يمكن أن تتنازل عن نفوذ لها في الباسيفيك أو بحار الصين إلا إذا وُجد ما يضطرها فعليا للقيام بذلك.
في هذا الإطار، تعتبر كتابات زانج وينمو، أستاذ أبحاث الفضاء بجامعة بكين، في الإستراتيجية الصينية، من أكثر الكتابات تأثيرًا في فضاء التفكير الإستراتيجي الصيني منذ عشر سنوات على الأقل. فدراسته المطولة بعنوان: "القوة البحرية والخيارات الإستراتيجية للصين" تعتبر من الدراسات التأسيسية التي يظن أنها من الدراسات ذات السطوة وقد أخذ بها من قبل الدولة الصينية في صياغة استراتيجيتها العظمى في الأعوام الأخيرة. وتدعي هذه النظرية لوينمو، أنه لا عودة للوراء إلى حالة الانتشار القاري فقط، كما تؤكد على فكرة الاستقلال وأسبقيتها على الأمن، مع السعي نحو القوة البحرية المناسبة للحصول على الحقوق الصينية في البحار. فما هي احتمالات التوافق والصدام بين القوة الصينية الصاعدة والغرب وخاصة الولاياتالمتحدة في ضوء هذه المعطيات، وماذا وراء المعجزة الاقتصادية الصينية، وما هي تأثيرات التفاعلات السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية على آفاق العلاقات بين الصينوأمريكا؟
من المهم أن ندرك أن التحول التاريخي المحتمل لا يزال في مرحلته الجنينية التي يصعب تأكيدها، فضلا عن أن أغلب التوقعات هي إحصائية اقتصادية تحلل توجه الاقتصاد بافتراض أن الأمور ستسير على ما يرام دون مفاجآت، وهذا في الغالب يخالف الواقع. لنلاحظ أيضاً أن أكثر من طرح هذه التوقعات هم من المفكرين والاقتصاديين الغربيين خاصة الأمريكان، مما يوحي بأن لذلك بعداً تحذيرياً لأصحاب القرار وصانعيه في أمريكا، ففي استطلاع للنخب من الديمقراطيين والجمهوريين في واشنطن أبدى 26% منهم موافقتهم على أن الأزمة المالية الأخيرة (2008) هي علامة على نهاية هيمنة أمريكا على العالم (National Journal, 2010)، وعندما تدرك النخب ذلك فمن المتوقع أن تعمل لتلافيه، هناك ما يمكن تسميته تخريب التوقع، أبسط مثال هو التوقعات الدورية من الخبراء الاقتصاديين، فقد يتوقعون زيادة أو انخفاض في السوق ليتم بعدها رد فعل على التوقع يغير من حالة العرض والطلب، وفي النهاية يؤدي إلى منع وقوع توقعات الخبراء.
هناك أيضا من يعتقد مثل جرالد سيجال وجوردون شانج، أن الصين لن تستطيع الاستمرار في نموها الاقتصادي بسبب أن نظامها السياسي هو نظام قمعي مغلق بينما نظامها الاقتصادي حر منفتح، ولن تتمكن من المحافظة على التوازن بين النظامين المتضادين، فأحدهما سينهار حتماً، فإما الانهيار الاقتصادي أو الانحلال السياسي. يقول شانج في كتابه "الانهيار القادم للصين": "بإنعام النظر فيما تحت السطح، ثمة الصين الضعيفة، التي على المدى الطويل تتدهور بل هي على حافة الانهيار.."، إلا أن النسبة الأكبر من المفكرين والمحللين يؤكدون أن تفوق الاقتصاد الصيني عالمياً قادم، وهو سيؤدي حتماً إلى التغير السياسي والدمقرطة والحريات في الصين، فطالما أن هناك نموا اقتصاديا ضخما وانفتاحا في التعاملات التجارية فلا محالة من وجود الطبقة الوسطى المنفتحة التي ستنتج الليبرالية، ومن ثم لا محالة من انفتاح النظام السياسي. ويبشر الكاتب الصحفي توماس فريدمان، بأن الصين ستحصل على صحافة حرة، لأن العولمة ستقودها لذلك وسيقتنع قادة الصين بذلك. يتبع