الحرب ليست امتدادا للسياسة، بل هي الحقيقة المتكررة الأشد مأساوية في تواريخ الشعوب والنقيض الخالص لأمل الإنسان في الحرية والأمن والتقدم والرخاء. اليوم تعاني بلاد العرب من حروب بين الجيوش النظامية وعبر الحدود الفاصلة بين الدول الوطنية كالحرب على اليمن، ومن حروب أهلية تفرض خرائط الدماء والدمار كالثورة السورية التي استحالت حربا أهلية، ومن حروب تشنها عصابات الإرهاب قتلا وحرقا وتهجيرا وتخريبا في مساحات تمتد من الخليج شرقا إلى الحزائر غربا ومن العراق شمالا إلى اليمن جنوبا. اليوم تعاني بلاد العرب أكثر من كافة مناطق العالم الأخرى من الحروب وويلاتها التي صنعت منا أمة من القتلى والمصابين واللاجئين والمهجرين. على الرغم من ذلك، لم يزل البعض في بلاد العرب يستخف بالحروب ويزين للشعوب التورط فيها. على الرغم من ذلك، لم يتوقف أيضا الاستخفاف من قبل كتاب ومثقفين وأصحاب رأي فيما خص مأساوية الحروب ولم يتوقف ترويجهم الخطير لها كامتداد للسياسة بأدوات أخرى. والسياسة، معرفة كنشاط إنساني طوعي وسلمي يستهدف تحقيق الصالح العام للمجتمعات وحماية حق الناس في الحياة والحرية والأمن ويقدم دائما ما هو ممكن على ما ينبغي أن يكون ويبحث عن الحلول الوسط، هي من مثل هذه المقارنة الخائبة براء. وبالقطع لم يحترق من يستخفون بالحروب ويروجون لها بويلاتها، ولم تقترب خرائط الدماء والدمار منهم أو من مساحاتهم الخاصة، ولم يختبروا قسوة التهجير والارتحال وطلب اللجوء. هم يزعمون أن الحروب ستأتي قريبا بأبطالها المنتصرين وبالمنهزمين المدحورين وبنهاياتها السعيدة تلك سيعم السلام والتقدم والرخاء، بينما الحقيقة الوحيدة هي أن الحروب لا نهايات سعيدة لها وأن السلام لا يعم ولا تقدم ورخاء يتبلوران ما لم تبتعد الشعوب عن التورط في الحروب وفي حلقاتها المفرغة. ولنا في الحرب المأساوية على اليمن الدليل البين. منذ ربيع 2015 والحرب الجائرة على اليمن تتواصل والصراع بالوكالة بين السعودية وإيران يتمادى ليختطف الدولة شبه المنهارة والمجتمع المأزوم بفعل نزاعات داخلية عديدة. الحصيلة اليوم هي أكثر من 14 مليون يمني – نصفهم من الأطفال – يتهددهم الجوع، وأكثر من 19 مليون لا يحصلون على مياه صالحة للاستخدام الآدمي أو على الحدود الدنيا من الرعاية الصحية، وما يقرب من 3.5 مليون هجروا أو فقدوا أماكن إقامتهم، وآلاف القتلى والجرحى، ومئات المستشفيات والمدارس والبنى الأساسية الأخرى المدمرة. ليست هذه أرقامي، بل هي بيانات وكالات ومكاتب مختلفة تتبع منظمة الأممالمتحدة وتنظر في الشأن اليمني الذي صار على نحو مفجع مسكوتا عنه في بلاد العرب. فتحالف السعودية وحكومات خليجية أخرى المتورط في عمليات عسكرية مستمرة لا تعنيه الأوضاع الإنسانية الكارثية للشعب اليمني على الرغم من زعمه الدفاع عن «حكومة اليمن الشرعية» وانحيازه لمصالح الناس، ولا يتناولها في خطابه الإعلامي وإن فقط من باب نفي المسؤولية ورفع العتب. أما طرف الحرب الآخر المدعوم إيرانيا، أي جماعة الحوثيين وبقايا نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، فلا يربطه بكوارث الجوع والمرض والتهجير والدمار سوى الادعاء الزائف بعدم تسببه بها وبانتماء الضحايا لصفوف مؤيديه. وجامعة الدول العربية في خانات الصمت المريب عن مأساة اليمن لم تغادرها منذ اشتعلت الحرب، ولم تنتج سوى عبارات التأييد «للحكومة الشرعية» المدعومة سعوديا وخليجيا، ولم يصدر عن إداراتها المكلفة بمتابعة الأوضاع الإنسانية للشعوب العربية بيانا علنيا واحدا، ولم تطالب أبدا لا بوقف العمليات العسكرية ولا بهدنة إنسانية ولا بتكثيف أعمال الإغاثة. لا شيء على الإطلاق. ليست الحرب على اليمن، إذا، سوى مأساة متكاملة الحلقات تمسك بالشعب الطيب وتدمر مجتمعه وتنزع عنه الحق في الحياة. وليس في ذلك سياسة على الإطلاق، بل سلوك ظالم من قبل قوى داخلية وإقليمية وتجاهل ظالم من قبل المجتمع الدولي للمأساة اليمنية. من يساعد الشعب اليمني اليوم؟ وكالات ومكاتب الإغاثة الأممية، بعض الوكالات الحكومية الأمريكية (المعونة الأمريكية) والأوروبية (خاصة هيئات الدعم الدولي البريطانية والألمانية) والمنظمات الأجنبية غير الحكومية العاملة في مناطق العمليات العسكرية والحروب والنزاعات المسلحة كأطباء بلا حدود وأوكسفام. تجمع كافة هذه الجهات على تجاوز مأساة اليمن لإمكانياتها المحدودة، وعلى هامشية اليمن في دنيا صناع القرار الغربيين إذا ما قورنت بمسارح الحروب الأخرى في بلاد العرب من سورياوالعراق إلى ليبيا، وعلى قرب تحول الجوع إلى مجاعة والمرض إلى أوبئة والتهجير إلى أزمة لجوء مريعة. تساعده أيضا كل حكومة إقليمية تمتنع عن التورط في الحرب الجائرة والمستمرة منذ 2015 كالحكومة المصرية التي رفضت الانجرار إلى الأعمال العسكرية في اليمن، وتساعده الحكومات الغربية حين تمتنع عن تصدير السلاح إلى الأطراف الداخلية والإقليمية المتورطة في الحرب. الأمر، إذن، هو أن ثلاثية تصارع القوى الداخلية على السلطة وتورط القوى الإقليمية في حروب بالوكالة على أرض اليمن ومحدودية الاهتمام الدولي بالأوضاع الإنسانية الكارثية صارت تهدد بقاء الشعب اليمني بعد أن قضت على دولته وفرضت الدماء والعنف على المجتمع. وإذا كانت حروب السعودية وإيران غير مرشحة للتوقف في المستقبل المنظور وإذا كان التجاهل الدولي لليمن غير متوقع تبدله كاملا على الرغم من البوادر الإيجابية لوقف توريد السلاح، فإن القوى الداخلية المصطفة إما في «الحكومة الشرعية» أو في خانة الحوثيين هي الوحيدة القادرة على وضع حد لمأساة اليمن حال عدلت فعلها. تتسم خريطة هذه القوى الداخلية بالتعقد والتنوع الشديدين. فمن بينها قوى قبلية ومجتمعية وسياسية، وبعضها يعتاش على بقايا مؤسسات الدولة وبعضها الآخر يحمل ضغائن عميقة تجاه فكرة الدولة الوطنية وبعضها الثالث يختزل دوره في التحالف مع الرعاة الإقليميين، وثمة قوى تبحث عن تنفيذ رؤى انفصالية تعيد تعريف حدود في اليمن وغير بعيد عنها جماعات إرهابية العنف مشروعها الوحيد. غير أن الراسخ من جهة هو أن الطائفية لم تتمكن بعد من خريطة القوى الداخلية على الرغم من طائفية الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران، ومن جهة أخرى كون أغلبية الشعب اليمني باتت تقف بعيدا عن القوى الداخلية الكبرى كالحوثيين وبقايا نظام صالح وجماعة الإخوان المسلمين وحزبها الإصلاح وتنظر إليها كمنتمية لواقع فاسد يصارع للبقاء دون اعتبار للمأساة الراهنة، دون عظيم تقدير للصالح العام، دون صياغة لرؤية لإنهاء المأساة. والراسخ أيضا أن كارثية الحرب والغياب غير المرشح للتغير لمنتصر واضح ومنهزم مدحور يدللان على تهافت النظر إلى الحرب دون إدانه وكارثية تمريرها كاستمرار للسياسة بأدوات أخرى. مثل هذه الرؤية الإنسانية يحمل لواءها اليوم في اليمن منظمات المجتمع المدني التي تواجدت في البلاد قبل محاولة الانتقال الديمقراطي في 2011 ولم يغيبها تعثر الانتقال واشتعال الصراعات بين القوى الداخلية، وهي اليوم تكتسب أهمية متصاعدة في ظروف الحرب والأوضاع الإنسانية الكارثية بفعل أدوارها الإغاثية بالتعاون مع المنظمات الأجنبية غير الحكومية ولأن أصوات بعض قياداتها ترتفع برؤية ليمن ترفض الحروب بالوكالة مثلما ترفض النزعات الانفصالية وتتجاوز الطائفية وتثق في إمكانية استعادة السلم الأهلي وإنقاذ الدولة الوطنية في سياق انتقال ديمقراطي منظم تديره نخبة تكنوقراطية (عناصرها تقيم اليوم في الجوار الإقليمي أو تتوزع عالميا) وكفاءات محلية لا يعدمها اليمن. القدس العربي