تحتفل الإنسانية هذه السنة بالمئوية الثانية لميلاد الكاتب الروسي العظيم، فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي (1821-1881) الذي ارتبط في وقت مبكر بالحركات النضالية في بطرسبورغ قبل أن يتم توقيفه في 1849 ويحكم عليه بالإعدام. وقبل التنفيذ بلحظات، شاءت الصدفة أن يتم تحويل الحكم إلى السجن في سيبيريا لمدة أربع سنوات. عندما غادر السجن، كان كل شيء قد تغير في ذهنه، انفصل نهائياً الحلم العسكري الذي كان قد بدأه، ثم تفرغ في النهاية للكتابة التي تحولت إلى رهان حياتي على الرغم من مرض الصرع الذي كان يرهقه. يعيدني سؤال دوستويفسكي وتأثيراته إلى بداية مراهقتي في ثانوية الشهيد ابن زرجب في تلمسان، عندما مُنحتُ جائزة التفوق Le prix d'excellence ، التي تُقدّم عادة للتلاميذ المتفوقين في نهاية السنة، وهي ثلاثة أنواع: الجائزة الشرفية، والجائزة التشجيعية، وأخيراً جائزة التفوق. كنا نتنافس على مدار السنة للحصول على إحداها. الجائزة لم تكن نقدية، ولكنها عبارة عن مجموعة من الكتب بالفرنسية، وقليل منها بالعربية. من بين كتب الجائزة التي كانت من حظّي، أتذكر: كتاب أوزان الشعر العربي، و«سوناتا كروتزر» و«الحرب والسلام» لليو تولستوي، وخمس روايات لدوستويفسكي؛ أي كل ما يجعل مني شيطاناً رجيماً بعد قراءتها: المقامر، الجريمة والعقاب (1866) الأبله (1869) الشياطين (1871) والإخوة كرامازوف (1880). لم تكن روايات دوستويفسكي روايات أطروحة من هنا حب القراء لها. روايات تتقاطع فيها بشكل ديالكتيكي وجهات نظر الشخصيات المتصارعة التي تتصرف وفق شرطياتها المعيشة، وليس وفق إرادة الكاتب. من حسن حظي أني بدأت ب»الجريمة والعقاب» وعندما انتهيت من قراءتها، قضيت مدة طويلة أفكر في الانتقام من الذين وشوا بوالدي أيام الحرب التحريرية، بأنه كان منخرطاً سرياً في الحركة الثورية، وتسببوا في استشهاده على كرسي التعذيب في الحقبة الاستعمارية، والانتقام أيضاً من الذين كانوا يأخذون لويزات (ذهب) أمي بربع ثمنها الحقيقي. في حالات الغفوة، كنت أرى نفسي متقمصاً شخصية راسكولينكوف، وهو يجوب شوارع سان بطرسبورغ بعد تنفيذ جريمته الثنائية ضد المرابية إيلونا إيفانوفا، التي اشترت منه ساعته القديمة بسعر زهيد، وضد امرأة الصدفة التي شاء القدر أن توجد هناك، في المكان والزمن غير المناسبين. من حسن الطالع أني قتلت أعداء أمي ذهنياً عشرات المرات، بالآلة الحادة نفسها، وأحياناً بالتسميم بلا ندم ولا صرخة راسكولنيكو «لقد قتلتُ نفسي، وليس العجوز الشمطاء». قرأت بعدها «الأبله» وأحسست أنه بيني وبين الأمير ميشكين حقيقة شبه غريبة، في طيبته وتواضعه ومساعدته للغريب ولمن انقطعت به السبل، لهذا كرهت قريبته وحبيبته أناستاسيا الجميلة الساحرة، المحظية، المجنونة التي كانت تسخر من سذاجته. قبل أن أكتشف البعد الآخر في أعماق الأمير وتراجيديته التي لا تفصح عن نفسها بسهولة. ثم تابعت قراءاتي حتى النهاية. تعلمت منها الكثير، في الحياة والكتابة. منها أن الإنسان ليس سطحاً أملس، متاحاً، فالمتاح كثيراً ما يكون خادعاً. ونحن عندما نكتب علينا أن نأخذ هذا البعد النفسي بعين الاعتبار، فهو الحاسم في علاقتنا العملية مع الشخصيات الروائية، والأشخاص أيضاً. بناء الشخصية على صعيد الكتابة أعقد، وربما الإخفاق في نص من النصوص يبدأ من هنا. صحيح أن في شخصيات دوستويفسكي شيئاً من أنفاس الكاتب، فهي كائنات شبه مريضة بمحيطها، تلعب القمار، سجينة بسبب وغاضبة، كارهة للحياة وحاقدة عليها، مصابة بالصرع مثل دوستويفسكي. فقد عانى سميردياكوف في رواية «الإخوة كارامازوف» من نوبات الصرع، لكن ذلك كله لا يجعل منه الكاتب نفسه. يجب ألا ننسى أن حياة دوستويفسكي نفسها تشكل أكبر رواية حقيقية في تعقدها وتشعبها وخيباتها. يكفي أن نقول إن الأقدار والصدف أنقذته في العديد من المرات، وانضمامه إلى مجموعة سياسية مُعارضة للاستبداد القيصري والعبودية الروسية، جرته إلى الإعدام لولا بركات السماء في آخر لحظة. فقد اتُهمِ وقتها بقراءة الكتب والأعمال المحظورة، والمساعدة في نشرها وتعميمها، بالأخص كتاب بلنسكي «رسالة إلى غوغول». المسافة بين الموت والحياة تكاد لا تُرى: ماذا لو أعدم دويستويفسكي يومها؟ ماذا لو لم يستطع التثليثيون دفع الفدية لاسترجاع سيرفانتس من حاكم الجزائر حسن فينيزيانو، بعد أن ركبا السفينة استعداداً للمغادرة؟ ماذا لو لم يجد ابن خلدون أمامه مغارة فرندة، هرباً من قبائل تلمسان التي كانت تبحث عنه لقتله؟ ماذا لو نفذ ابن تيمية فتواه ضد ابن عربي لولا الزمن الذي فصل بينهما؟ لم تكن الرواية عند دوستويفسكي شأناً بسيطاً. هي ليست فقط فعلاً كتابياً، وليست لحظة عابرة أو ضربة مزاج تجاه ما يحيط به، لكنها عمل شاق جداً. فهي محنة مثل الحياة، وجلد كبير وحرية واسعة أيضاً مهما كانت المخاطر التي تحيط بالإنسان، وأي تساهل في مسألة الحرية هي خسران لمشروع الكتابة نفسها. الشبكة البنائية التي قاد بها رواياته تكاد تنافس السيمفونيا في نظامها الداخلي بروابطها وتناغمها والهارمونيا التي تتجلى من تناسق البنيات المختلفة. هذا كله يحتاج إلى قوة ذهنية تعمل فيها الحواس كلها بشكل متشابك، بعيداً عن كل ما يعترضها من دين معطل لمسارات أن يكون الفعل الأدبي حراً بامتياز. فلا مقدس في البنية الروائية التي يمكن أن تنفجر في أية لحظة. كل شيء يمكن أن ينسف ويحلّ محله الجديد. لم يكن يتنبأ سلفاً بمآلات شخصياته وهو يقوم برميها في مساحات مجتمعية معقدة ومتشابكة، فهناك أولاً منطق الكاتب الذي يسجله في الخطاطة العامة للرواية، وهناك منطق الرواية نفسها الذي يفرض مساراته على المخطط المسبق. وما يبدو تنظيماً فوضوياً من منطق القراء والنقد تحديداً، قد لا يكون كذلك بالنسبة للكاتب. فقد انتهكت رواية «الأبله» كل المواضعات الروائية السائدة، وسارت في مسالكها الوعرة. لا توجد مسبقات شكلية في الكتابة الروائية. الكتابة في النهاية هي الإنسان في شرطيات عصره القلقة، مسار إنساني معقد غير معني بحجم الصفحات؛ لأن الكتابة في النهاية لا تحيل إلى حجمها ولكن إلى قوتها وتفصيلاتها المتجانسة التي تجعل من عالم لغوي تجريدي عالماً مرئياً حقيقياً من دقة الوصف وقوته. لهذا، كثيراً ما تبدو أطروحة كسالى القراءة حول «البدانة الروائية» مضحكة ولا معنى لها، لأن هذا المنطق المضاد لما هو أدبي سيجعلنا نتخلص من أجمل ما أبدعته العبقرية البشرية: دون كيخوتي سيرفانتس، ليون وحرب وسلام تولستوي، الإخوة كرامازوف دوستويفسكي، وعوليس جميس جويس، مارسيل بروست، الجبل السحري لتوماس مان، وثلاثية نجيب محفوظ، والفتوحات المكية لابن عربي، وألف ليلة وليلة... وغيرها من النصوص العالمية الخالدة. وليس غريباً أن يحدد دوستويفسكي قيمة النص الروائي في قوة نظامه الداخلي ومعناه المتجلي في صلب العملية السردية، وليس في الحجم الذي ليس خياراً مسبقاً، لكنه تمظهر لمسار سردي معقد يخترق الأزمنة، ويجعلنا نصرخ: كم تشبهنا هذه العوالم؟