في عالم اليوم، تبدو الحقائق أقل أهمية من المشاعر في تشكيل مداركنا عن الأمور. وتبدو الصورة أهم من الأصل، والوهم أهم من الحقيقة، والخيال أهم من الواقع. ويغرق العالم بالأكاذيب والادعاءات، والحروب والأزمات، والفقر والفساد، والهجرة واللجوء، والأوبئة والأمراض، وتفاوت المعرفة والثروة والقوة وأنماط العيش. ويجد الناس صعوبة في التمييز بين الصحيح والخاطئ، وبين الحق والظلم. وازدادت حملات التضليل الإعلامي والسياسي حول العالم. ويظهر "تيار دولي متنامٍ يشجع البعض على أن يلووا عنق الحقيقة ليناسب آراءهم، بدلاً من العكس. ليس بالضرورة حملة تؤكد أن الحقائق غير مهمة، بل قناعة بأن الحقائق يمكن دوماً حجبها وانتقاؤها وتقديمها في سياق سياسي يفضل تفسيراً معيناً للحقيقة على تفسير آخر". ..تأكيد الهيمنة يقول كتاب "ما بعد الحقيقة" للكاتب لي ماكنتاير إن المهم في عالم "ما بعد الحقيقة" ليس مجرد تنحية الحقيقة عن ميزان الاعتبار فحسب، وإنما كونها "آلية لتأكيد السيطرة السياسية"، ص12، وبالطبع السيطرة الاقتصادية، وتغيير أنماط المعرفة وطرق تقييم العمل، وخاصة لدى الشركات الكبرى مثل شركات الأدوية وصناعة التبغ والبتروكيمائيات والأسلحة والأغذية المعدلة وراثياً وغيرها التي تحاول التغطية على الآثار الناجمة عن أعمالها، بصناعة خطاب علمي وإعلامي ينسجم مع مصالحها. خطاب يضلل الرأي العام، ويخلق "حقائق" ليست حقيقية، ومدارك ومعارف "تبدو علمية"، بواسطة منابر تقدمها بوصفها جزءاً من "جدال في العلم" و"سجالاً علمياً". وأخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمثل تجسيداً لنزعة "ما بعد الحقيقة" في أميكا والعالم. وتمكن من جذب شريحة كبيرة من المتلقين والناخبين، الذين تلقوا "أكاذيبه" بوصفها "استبصارات" أو "تقديرات حدسية"، كما يقول ترامب نفسه، ومن دون أي حرج من كونها مجرد أكاذيب. ويبدو أن الكشف عن الأكاذيب لا يغير كثيراً في تلقيها وتقبلها وتبريرها، إذ يُنظر إليها بوصفها "مواقف لازمة" أو "استجابات ضرورية" في إطار صراع سياسي أو مواجهة، وهذا يتطلب تفسيراً من الناحية الأخلاقية والقيمية، كما يتطلب تقصياً للعلاقة بين الحقيقة والسياسة وأيضاً بين الحقيقة والأخلاق، ليس لدى الأفراد وصناع السياسات ورجال المال والأعمال والإعلام، وأيضاً فواعل الفكر والثقافة، الذين يُفتَرَض أن يكون ميزانهم الأخلاقي والقيمي أكثر حساسية حيال ذلك. كان الرئيس ترامب يكذب، ولكن سعي وسائل الإعلام لإيضاح ذلك للناس لم يكن يحقق الغرض، بل إن المتلقين بدوا شديدي الحماس لما يقول؛ كما أن بعض الإعلام كان "يعيد إنتاج" خطابه، بوصفه حقيقة، ويصوّر كلام خصومه بوصفه أضاليل أو أكاذيب؛ ولو أن التمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي لم يكن الشغل الشاغل للمتلقين، فما يهم هؤلاء هو التأكيد على أولوية وأحقية وصواب ما يؤيدونه أو ما يرغبون به الخ. ..ماذا تعني "ما بعد الحقيقة"؟ كلمة "ما بعد الحقيقة" حديثة جداً. أدرجها قاموس أوكسفورد في مفرداته وتعريفاته في العام 2016، بعدما زاد استعمالها بنسبة 2000 بالمئة خلال العام 2015. ومن الكلمات التي زاد استخدامها في الإعلام والميديا: "اليمين الجديد" و"الشعبوية"، الأمر الذي يكشف عن "السياق السياسي الذي جاء فيه الاختيار". ونظراً لشمولية كلمة "ما بعد الحقيقة"، فإنها بدت تمثل تجسد روح الأزمنة الراهنة. لقد شهدنا تعتيماً للحقائق وتخلياً عن المعايير الواضحة في منطق الاستدلال، وكذباً محضاً ساد تصويت عام 2015 في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي وكذلك انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016". ص17. يُعرِّف قاموس أوكسفورد "ما بعد الحقيقة" بأنها "تشير إلى ظروف تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام الذي يناشد المشاعر والاعتقاد الخاص" وأن البادئة "ما بعد" لا تعني أننا "تجاوزنا" الحقيقة بالمعنى الزمني، كما في عبارة "ما بعد الحرب"، بل "أن الحقيقة صارت محجوبة وعديمة الأهمية". ص 21. ثمة اجتهادات يقدمها الباحثون في هذا الباب، تحيل إلى تغير في ميزان الحقيقة والمعرفة، أو على الأقل محاولة تفسير هذا النمط من "الحقائق". ونَحَتَ ستيفن كولبير كلمة "الحدسية"، وتعني "حالة من الاقتناع بأن شيئاً ما يبدو صحيحاً، حتى لو لم يكن مدعوماً بالحقائق بالضرورة". ص21. وطبق ذلك بصورة خاصة على تجاوزات الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في الاعتماد على "حدسه وأحاسيسه "في اتخاذ القرارات الكبرى، مثل قرار غزو العراق من دون دليل على امتلاك الأخير أسلحة الدمار الشامل. و"تعامل الناس مع كلمة الحدسية "بوصفها مزحة كبيرة، لكن لم يعد الناس يمزحون بشأنها الآن". ص22. ..الجهل والكذب "هل معنى ذلك أن ما بعد الحقيقة تتعلق فقط بالكذب؟ هل هي مجرد دعاية سياسية مضللة؟ ليس بالضبط. إن كلمة "ما بعد الحقيقة"، كما تظهر في النقاش الراهن تعبّر عن القلق الذي يبديه من يهتمون بمفهوم الحقيقة ويستشعرون أنها تتعرض للهجوم. لكن ماذا بشأن من يشعرون أنهم يحاولون عرض "الجانب الآخر من القصة" حول موضوعات خلافية؟ ماذا عن وجود حجة قوية لصالح "الحقائق البديلة"؟ ص 23. يتحدث الكتاب عن "الجهل الإرادي"، ويعني أننا نتحدث عن صحة شيء من دون أن نعرف ما إذا كان صحيحاً أم لا، ومن دون الاهتمام بالتحقق من ذلك. وأما الكذب فهو إيراد معلومات بقصد الخداع، وتأويل ما نعرف ليوصل فكرة بعينها، وتغليب جانب على آخر، وتقديم وتأخير، وتجاهل أبعاد ومعلومات، والتخفيف من أهمية مؤشرات بعينها، وعدم الاكتراث حيال ذلك وتأثيره على الواقع والآخرين، الخ. نحن في عصر الخداع وتعميم الأفكار الخادعة والخاطئة، والتلاعب في الوقائع، وصعوبة التحقق مما يقال أو يُقدم، ووجود تدفق مهول للمعلومات والتحليلات المتناقضة والمتعاكسة، ومنها ما لا أساس له في الواقع، ومن يستطيع أن يتحقق من ذلك، وكيف يمكن وضع ميزان يمكن التوافق عليه حول ما يحدث؟ إن العالم اليوم لا يحفل بالحقيقة، ولا ميزان واحد لما يعد حقيقة أو حقيقياً، إذ ثمة حقائق كثيرة، وأن ميزان الاعتبار الرئيس هو الناظر أو المتحدث أو الفاعل. يقول الكاتب: "أرى أن كل صور ما بعد الحقيقة محزنة ومستهجنة. … لا ينبغي لأي منها أن تكون مقبولة من جانب المخلصين لفكرة الحقيقة. لكن الجزء الأصعب ليس تفسير الجهل أو الكذب أو التهكم أو عدم الاكتراث أو الدعاية السياسية المضللة أو حتى التوهم. فلقد عشنا هذه الأمور على مدى قرون، وإن ما يبدو جدياً في عصر ما بعد الحقيقة هو التشكيك، ليس في فكرة معرفة الواقع، بل في وجود الواقع نفسه". ص 26_27. يركز قاموس أوكسفورد على ماهية ما بعد الحقيقة، "كون المشاعر أحياناً أكثر أهمية من الحقائق. لكن … لماذا تحظى المشاعر أصلاً بأهمية أكثر من الحقيقة؟ لا أحد يجادل في حقيقة واضحة أو سهلة الإثبات بلا سبب، بل يفعل ذلك عندما يصب هذا الجدل في مصلحته. فعندما تتعرض معتقدات المرء للتهديد من جانب "حقيقة مزعجة"، فإنه يميل أحياناً إلى تحدي الحقيقة. ص 28-29. وهذا يمكن أن يحدث بشكل واعٍ أو لا واعٍ. يحدث أن "نسعى لتأكيد شيء أكثر أهمية لنا من الحقيقة نفسها". ص 29. هنا تبدو "ما بعد الحقيقة" شكلاً من أشكال الهيمنة الإيديولوجية، في حال أراد ممارسوها "إرغام شخص على الإيمان بشيء بدليل جيد أو بغير دليل. وهذه وصفة جيدة للهيمنة السياسية". ص 29. يتساءل الكاتب: "هل نريد أن نحيا في عالم تقوم فيه السياسات على ما تبثه فينا من مشاعر بدلاً من درجة تحققها في الواقع؟"، ص 29. ربما يميل الإنسان إلى "تصديق الخرافات والمخاوف التي تراوده، وثمة أسئلة مشروعة عن قدرتنا على معرفة الحقيقة الموضوعية، ما العمل إذاً؟ يقول الكاتب إن الخطوة الأولى في التصدي ل"ما بعد الحقيقة"، هو "فهم تكوينها"، ص30. ثمة جذور قديمة للتلاعب في استخدام الحقائق، وفي طرق تقديمها للناس، وفي التضليل وأساليب المناظرة والمدافعة والمرافعة عن القناعات بوصفها حقائق. يمكن الحديث عن تاريخ طويل من الاستخدام السياسي للحقائق أو لما يعد حقائق من منظور كل طرف، وعن معارك ومواجهات ودماء كثيرة جرت في هذا الباب. لكن الفارق اليوم هو في كون "ما بعد الحقيقة" أكثر ظاهرة تكتسح العالم، ويتعرض الأفراد والجماعات لسيل من التدفقات في الأخبار والوقائع، بوصفها حقائق. حتى ليبدو أن لكل فاعل "حقيقته" التي يقدمها ويدافع عنها، التي يمكن أن تتغير بتغير مشاعره وقناعاته وأولوياته، إذ ليس للحقيقة من وجود قائم أو معنى قائم بذاته. ولذا تجد تحولات وأنماط تفاعل واستجابة لا حصر لها في هذا الباب. حقائق تهم الفاعل، وأخرى لا تهمه، أوهام وتقديرات وتخيلات تهم الفاعل: الآن، هنا، وقد لا تكون كذلك في زمان ومكان آخر. .. إنكار العلم والعلم الزائف "تبدت إرهاصات ما بعد الحقيقة فيما حدث للعلم على مدار العقود الأخيرة. كان العلم يحظى في الماضي بالاحترام نظراً لسلطة منهجه، أما الآن فإن نتائجه العلمية تتعرض للتشكيك الصريح من قبل جيوش من الخبراء الذين تصادف أنهم يخالفونها". ص32. طبعاً، يمكن أن تحدث أخطاء غير مقصودة في القراءة والتقييم العلمي، وفي إجراء التجارب، وفي الإنتاج، وهذا بحد ذاته خارج موضوعنا. لكن وجود أخطاء مقصودة أو تزوير أو تضليل أو تلاعب في التجارب، فهذا يمثل خطراً، وخاصة إذا جرى في إطار مخطط مسبقاً، ويراد منه خلق مدارك وتقييمات لدى المتلقين، سواء من فواعل السياسة أو فواعل الرأي العام. يتحدث الكتاب عن "أبحاث زائفة ينتجها خبراء مقابل المال، ويتم تحويلها إلى نقاط للحوارات والثيمات المثيرة، ثم يجري تكرارها على شاشات التلفزيون عن طريق عملاء مزيفين، ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا اقتضى الأمر، تثبيتها في الوعي العام عبر حملات إعلانية مدفوعة الأجر". ص 41. وهذا ينسحب على مسألة التغيرات المناخية، كما سبقت الإشارة، إذ تم تأسيس وتمويل مراكز أبحاث للعمل على إنكار أي دور لشركات النفط والصناعات البتروكيمائية وغيرها في تلك الظاهرة. ص 42- 47. ..التحيز المعرفي يميل الإنسان لتأكيد معتقداته، وإنكار ما يمثل تهديداً لها. وتوضح الدراسات النفسية "أننا نلتمس التناغم بين معتقداتنا وتوجهاتنا وسلوكياتنا، وأننا نمر بتوتر وصراع نفسي عندما يختل توازنها". ص50. ونميل إلى "رفض الأدلة الملموسة إذا وجدنا أن معتقداتنا لا تتفق معها". ص 53. ويحدث أن تتأثر تقديراتنا بالأقران والسياق الاجتماعي أو السياسي الذي نعيش فيه، ونتأثر بتدفقات المعلومات والصور، كما نتأثر بتوقعاتنا، وكل ذلك يمكن أن يدفعنا لتغيير قناعاتنا أو تكييفها أو تحييدها أو تجاهل التناقضات فيها أو بينها وبين ما يظهر لنا. وهكذا، فإن ثمة عوالم وعوامل كثيرة تتدخل –في النهاية-لتحدد تقديراتنا وقناعاتنا وأنماط استجابتنا حيال ما يطرأ أو يحدث في عالمنا. ونكشف أن كثيراً من الناس يميلون إلى تشكيل معتقداتهم خارج أصول العقل ومعايير الدليل الجيد، ليتوافق مع قناعاتهم الخاصة أو قناعات أقرانهم"، ص 57. وتتحدث الدراسات النفسية عن تأثير التكرار، وفقدان أو نسيان مصادر المعلومات، ص59، و"الاستدلال المدفوع بالرغبة والعاطفة". ص ، وميل الإنسان للبحث أو لتلقي ما يعتقد أنه صحيح أو ينسجم مع مداركه ومصالحه، وبالتالي تجاهل ما يناقض ذلك، أو التخفيف من أهميته ومعناه. يمكن الحديث عن "تأثير النتائج العكسية"، بمعنى أن يؤدي ظهور دليل يناقض معتقداتنا، ليس إلى مراجعتها وتصحيحها، بل إلى "التشبث بها" و"تعزيزها". وهذا ما كان من المحافظين حيال الادعاء الأميركي الكاذب بوجود أسلحة الدمار الشامل لدى العراق، إذ "أتى تصحيح المعلومة بنتائج عكسية" لديهم، وأصبحوا أكثر ميلاً لتصديق الادعاء! ص 64 -63. هناك أيضاً، "تأثير دانينغ كروجر" dunning kruger effect أو "تأثير الغباء"، وتأثير "الثقة المفرطة"، ص66. إذ "تسلبنا التحيزات المعرفية أحياناً مقدرتنا على التفكير الواضح، بل وتمنع إدراكنا للأوقات التي لا نفكر فيها بوضوح. ومن الممكن أن يبدو الخضوع إلى "التحيز المعرفي" مشابهاً للتفكير، لكن عندما نُستغرق عاطفياً في موضوع، فإن قدرتنا على الاستدلال الجيد ستتأثر على الأرجح". ص69. ويجزم الكاتب أن التحيزات المعرفية أكثر تأثيراً لدى المتعصبين والمحافظين منهم لدى المنفتحين. "إذا كنا بالفعل مدفوعين بالرغبة والعاطفة لتصديق بعض الأمور، فلن يستغرق الأمر طويلاً أن يُغمز إلينا بأن نصدقها، خاصة إذا كان الآخرون الذين نهتم لأمرهم يصدقونها بالفعل. إن تحيزاتنا المعرفية المتأصلة تجعلنا على أتم الاستعداد لأن نقع فريسة للتلاعب والاستغلال من أصحاب الأجندات الذين يريدون ترويجها، خاصة إذا كانوا يستطيعون أن يُكذِّبوا مصادر المعلومات الأخرى جميعها"، ص74. ..الإعلام والاتصال يمثل الإعلام والاتصال، بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي وتدفقات العولمة، حيزاً مهماً ل"ما بعد الحقيقة". ويُغرِق الإعلامُ العالمَ بالمعلومات والأخبار والأحداث والأفكار والدعاية، على اختلاف أنماطها واتجاهاتها، واختلاف قيمتها العملية والمعرفية والقيمية والأخلاقية الخ "إن صعود وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مصدراً للأخبار زاد من تشوش الحدود الفاصلة بين الأخبار والآراء؛ لأن الناس أصبحت تشارك قصصاً من مدونات، ومواقف إخبارية بديلة، ومصادر مجهولة، كما لو أنها صحيحة تماماً"، ص 104. و"تكثر مصادر "الأخبار" حتى أن المرء يعجز تقريباً عن تمييز المصادر الموثوقة والمحققة"، ص107. "ليست الأخبار الزائفة مجرد أخبار خاطئة (أو مجرد أخبار محرجة أو مزعجة). إذا كانت وسائل الإعلام الأميركية تروّج أخباراً زائفة، فلا بد أنها تزيّف محتوى الأخبار عن عمد. لا بد أن يكون هنالك دافع أيديولوجي أو غيره من الدوافع المقصودة وراء ذلك التزييف"، ص121. وهكذا، "يمكن دفن الحقيقة تحت كومة من الكلام الفارغ. أو ليس هذا بالضبط هو بيت القصيد في ظاهرة ما بعد الحقيقة؟ ليست الحقيقة مهمة بقدر أهمية المشاعر، وليس بوسعنا حتى أن نميّز بين الصواب والخطأ"، ص125. ..ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة تتكئ "ما بعد الحقيقة" في بعض جوانبها على أفكار وقيم "ما بعد الحداثة". ويصف اليكس بابازوغلو التشكيك في فكرة الحقيقة قائلاً: "ما أن ندرك أن الحديث عن حقيقة مطلقة موضوعية تدليس فلسفي حتى يصبح البديل الوحيد هو "المنظورية"، وهي تشير إلى عدم وجود طريقة موضوعية واحدة يكون عليها العالم، بل منظورات فقط بشأن ما يبدو عليه العالم. تصوروا أن الفرضية الأولى لما بعد الحداثة هي عدم وجود حقيقة موضوعية بتاتاً. ولو كانت هذه الفرضية صحيحة، كيف نتصرف عندما يخبرنا شخص ما أن شيئاً ما صحيح؟"، ص 135. "ما بعد الحداثة" هي "أن أي ادعاء للحقيقة لا يعدو أن يكون انعكاساً للأيديولوجيا السياسية لدى مدعيها"، ص 136. وفي الختام، يسلّط الكتاب الضوء على واحدة من سمات العالم اليوم، الذي يتسم بسيولة المعلومات والأفكار والأخبار والأحداث، بكيفية من الصعب التمييز فيها بين الحقيقي والكاذب، وهو إذ يركز على "ما بعد الحقيقة" في أميركا، فإنه لا يتجنب الحديث عنها بوصفها إحدى ديناميات السياسة الأميركية حول العالم، وأنها في عمق التفكير والفعل السياسي والاستراتيجي لأميركا، وكيف أنها توظف منطق "ما بعد الحقيقة" وتطبيقاتها وخبرات علوم الميديا والنفس والاتصال والعولمة وغيرها في رهاناتها واستراتيجياتها ل"إعادة إنتاج" هيمنتها على العالم.