تحمل عملية طوفان الأقصى رسائل عميقة للمنطقة والعالم، أبرزها أنها نتاج تخطيط إستراتيجي طويل الأمد قام به قادة أظهروا إبداعا وابتكارا في إستراتيجياتهم ووسائلهم. هؤلاء القادة درسوا تاريخ الصراع، وأسباب الهزائم والانتصارات، فأصبحوا يعرفون طبيعة العدو، نقاط ضعفه ومصادر قوته. في ميادين النضال، تراكمت الخبرات رويدا رويدا. بدأت بتجارب المقاومة عبر إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال في الانتفاضة الأولى عام 1987، فأشعلت هذه البداية البسيطة جذوة الحلم بالحرية. ومع الزمن، تطورت وسائل الكفاح، أطفال فلسطين الذين بدؤوا حربهم بالحجارة، تعلموا وابتكروا أساليب جديدة لمواجهة العدو، والعالم يشاهد بإعجاب قدرتهم المتنامية، لكن هناك من ظلوا يسخرون من أحلام هؤلاء المقاومين، وتحت لافتة "الواقعية"، فضل أولئك الساخرون الانحناء للظروف والخضوع للدعاية الصهيونية المثبطة. لكن شابا مثل الشهيد يحيى عياش امتلأ إيمانا وعزيمة لا تعرف الهزيمة، سعى فابتكر وسائل جديدة للكفاح، فجاء قائده صاحب الرؤية والهمة رغم إعاقته، الشيخ أحمد ياسين، فدعم الشاب، ودفعه، وبين تلك العزيمة وذلك الدعم أخذت عجلة المقاومة تدور وتبتكر، وتلك هي القوة الحقيقية التي تقف وراء عملية طوفان الأقصى وسابقاتها: إيمان يزهو وينمو، رغم كل التحديات. …عوامل النصر ولكننا مع ذلك نستطيع أن نعدد قائمة من العوامل التي أسهمت في وصول المقاومة إلى تلك اللحظة المهيبة في النضال: ..تشجيع الشباب على الابتكار: لم يبدأ تشجيع الشباب، مع دعم تجارب الشهيد يحيى عياش، ولم يتوقف بعده، فبعد استشهاد عياش، استمر شباب غزة بتطوير الصواريخ، والبحث والتعلم لصناعة أسلحة لا يمكنهم العالم من الوصول إليها، وفي كل مرة كنا نشهد سلاحا جديدا، وتطورا ملحوظا في كفاءة الأسلحة التي طوروها، وأصبحت صواريخهم ترهب العدو، بل تصيبه في مقتل. ثم جاء التطور المهم الأخير، بقدرتهم على تطوير مسيرات، لتثير الرعب في قلب الاحتلال الإسرائيلي الذي أصبح يتوجس من مغامرة اقتحام غزة. ..الخيال الجغرافي: أطلقت قيادات المقاومة عنان خيالها الجغرافي، فلم تعد تتعامل مع غزة وحدها، ولكنها تمكنت من تطوير علاقاتها بكل مدن وقرى الضفة الغربيةوالفلسطينيين في الداخل المحتل. فأصبحت المقاومة تنظر إلى فلسطين كوحدة متكاملة اجتماعيًا وإنسانيًا وحضاريًا بالرغم من أن الاحتلال أقام الحواجز التي تمنع هذا التكامل. لذلك أصبح الاحتلال الإسرائيلي يخشى من تكامل الجبهات وأن يتم تشتيت قوة جيشه في جبهات متعددة. وقد شكلت المقاومة في بعض مناطق الضفة الغربية مثل جنين إسنادًا واضحًا للمقاومة، وقدم مخيم جنين نموذجًا مهمًا للمقاومة والإصرار، وأثبت قدرته على منع الاحتلال من اقتحام المخيم، ومن المؤكد أن الضفة الغربية أصبحت فاعلة في الصراع. ..الخيال السياسي: اختيار توقيت العملية يكشف أيضا أن قيادات المقاومة أصبحت تجيد الحسابات السياسية، ف"طوفان الأقصى" قدمتها للشعوب العربية كمدافعة عن المسجد الأقصى الذي يحتل مكانة مهمة في نفوس المسلمين جميعًا، ويتعرض في السنوات الأخيرة لإيقاع متسارع من التهويد. وبتشكيلها لرأي عام إسلامي مؤيد لها، تكون قد حازت أهم وأخطر وسائل إدارة الصراع، وتدرك الحكومة الصهيونية ذلك جيدًا. ..اختيار التوقيت: التوقيت مثالي أيضا من ناحية أخرى، فالمسلمون في كل أنحاء العالم، يشعرون مؤخرا بمزيد من الظلم والقهر والإهانة، وهم يتابعون عمليات حرق القرآن، وإهانة الرسول صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى الاعتداءات على المسجد الأقصى. كان الناس بحاجة ماسة إلى انتصار، وقد قدمته لهم المقاومة، وهذا جدير أن يزيد من دعمها وشعبيتها، ويلهم كثيرا من الشباب فضيلة الصبر وبذل الجهد لتغيير الواقع السيء. ..فن إرسال الرسائل: نجح خطاب محمد الضيف "أبو خالد" في استخدام العملية لإبراز قضية تتعاطف معها الشعوب، فهدف العملية الذي أعلنه هو "تحرير الأسرى الفلسطينيين"، ثم جاء أداء جنود المقاومة الذي سجلته كاميرات العالم ليكشف وجها إنسانيا في تعاملهم مع النساء والأطفال الإسرائيليين. وطني تلتزم بأخلاقيات الحرب التي لا تلتزم بها إسرائيل، وهذا سيلعب دورا ولا شك في زيادة التضامن مع القضية الفلسطينية عالميا. لقد أصبحت المقاومة تجيد صياغة خطاب يؤثر على جماهير متنوعة، ف"الضيف" يرسل بثقة ووضوح الرسائل للشعب الفلسطيني، وللعرب والمسلمين، وللعالم كله، ويعرف أهمية الكلمات في إدارة الصراع . ..فن المباغتة: توضح العملية أن المقاومة أطلقت ثورة عقول تخطط وتجيد المباغتة. فقد كانت مفاجأتها قاسية للعدو، الذي يتفاخر بقوة مخابراته وقوة قبته الحديدية، فلم يصمد هذا أو ذاك أمام الطوفان، وبذلك فإن المقاومة لم تنجح فقط في تطوير القوة الصلبة، بل أجادت فن استخدامها بذكاء، وقد أثبتت أنها تجاوزت مرحلة ردود الفعل العفوية غير المحسوبة إلى التخطيط الإستراتيجي. مهارات الحرب النفسية: وهنا نحن أمام مهمتين إحداهما عكس الأخرى، فقد كان على المقاومة أن تفعل شيئا لتحرير النفوس المسكونة بالهزيمة في المنطقة، وتوقظ قلوب الشعوب المسلمة إلى أن بإمكانهم أن يحققوا انتصارا مهْما بلغتْ قوة العدو، وهذه المعركة الأخيرة ستلعب دورها في شحذ تلك الهمم التي كسرتها أدوات الحرب النفسية الإسرائيلية والغربية لعقود طويلة. على الناحية الأخرى، فقيمة المعركة ونتائجها تتعدى حساب خسائر العدو عدديا، فالضربة نفسية بالدرجة الأولى، وأهم خسائر الصهاينة فيها هو أن ينكسر يقينهم في أنهم سيعيشون طويلا في أرض اغتصبوها، أو أن تفوقهم العسكري سينفعهم ويحميهم من أصحاب الأرض الذين يكافحون لتحريرها، لذلك كان مشهد فرار المستوطنين الذليل هو أكبر خسارة تتعرض لها دولة الاحتلال. الجزيرة نت