لا تشبع الفضائيات هذه الايام من حديث المثلية أو التحول الجنسي أو ما شابهه من أحاديث. فلا يكاد يمر أسبوع دون أن يطرح الموضوع للنقاش في هذه القناة أو تلك. الامر يوافق فضول الجماهير العربية بالتأكيد رغم أن هذه الجماهير أو الغالبية العظمى منها قد حسمت أمرها في هذا الموضوع واتخذت الدين حكماً أولاً وأخيراً فيه ولخصته بكلمة واحدة وفاصلة هي 'الحرام'، وبذلك نفضت عن رؤوسها أي فرصة للتعلم أو التفكر ولم يبق من دافعٍ لها وراء مشاهدة هذه البرامج سوى الفضول والرغبة في التلصص على عوالم هؤلاء المنفيين من عقولها وقلوبها. ليس مستغرباً والحال كذلك أن تعمد معظم القنوات التي ناقشت الموضوع الى استفتاء أو قل استطلاع رأي الأديان في الامر ولو من باب الشكليات والحرص على ارضاء الذوق العام، ولكن الحال لم يكن كذلك في الحلقة الاخيرة من برنامج 'قريب جداً' على قناة 'الحرة' الذي تناول ظاهرة التحول الجنسي ضمن حلقة خاصة بما سماها 'الروايات الملعونة'، مكتفياً باستضافة الكاتب 'حازم صاغية' مؤلف رواية 'رندة الترانس' وبطلة الرواية نفسها 'رندة' التي ما هي في الحقيقة الا شاب جزائري اسمه الاصلي 'فؤاد'. 'فؤاد' كما شرحت 'رندة' كان أنثى حبيسة جسد رجل وعندما حاول 'فؤاد' أن يخرج من جسده ويرتدي ملابس الاناث ويتحرك ويتحدث ويتصرف مثلهن ثارت الدنيا من حوله حتى من أقرب الناس اليه: عائلته، أمه، صديقه وزوجته سابقاً، ناهيك عن الصحافة والمساجد والجيران ومن لا ضرر ولا ضرار عليهم من وراء وضعه الغريب هذا. وكان على فؤاد أن يذوق الامرين قبل أن ينتهي به المطاف في لبنان وينعم بالأمان والحرية بعض الشيء مخلفاً وراءه في الجزائر حياته وذكرياته وأقاربه وطفله الصغير الذي أنجبه من زواج أرغم عليه قبل أن يتحول الى 'رندة'. ظهرت 'رندة' خلال البرنامج هادئة، واثقة من نفسها، حسنة المظهر والشكل والمكياج، حلوة الحديث، رقيقة الى درجة تفوق رقة الاناث أنفسهن، وقد اجتهدت في شرح حالتها وظروفها التي انتهت بها في 'كتاب ملعون'، وبدت ضليعة ومتمكنة علمياً فيما يخصها من أمور الى حد أن اعترف لها الروائي صاغية بفضل شرح ما غلق عليه فهمه من هذه الامور ما أسهم في انجاز الرواية على أحسن وجه. كما حرصت 'رندة' على أن توضح أن الامر لم يكن خياراً بالنسبة لها، فهي لا تعرف شيئاً عن ذلك ال'فؤاد' الذي كانته بل ان 'الرجل تركيبته كله شيء غامض' بالنسبة اليها، وشرحت أنه عندما تبين لها ذلك حاولت أن تستعيذ بالشيطان الرجيم وأن تستعين بالصوم والصلاة وأن تستجير بالله مما أصابها من أفكار منبوذة في مجتمعها الا أن ذلك لم يجد نفعاً معها. من الصعب تصور رد فعل المتمسكين بحكم 'الحرام' جملةً وتفصيلاً في حالة 'فؤاد' أو 'رندة' فيما يخص محاولاته الفاشلة لتقويم نفسه بالدين والتقرب الى الله، لكن الواضح حتى الآن أن الاعلام المرئي قد قام بالواجب 'وزيادة' فيما يخص هذه الفئة من البشر، فقد عرض للكثير من الحالات وناقش الامر من مختلف الزوايا الا أنه على الارجح لم يفلح في أن يحرك ساكناً في بركة الافكار المسبقة والمعتقدات التي يحتفظ بها المجتمع تجاههم. مع ذلك، ليس هناك من مؤشر على أن عجلة الاهتمام بموضوع المثلية والتحول الجنسي التي انطلقت مؤخراً سوف تقف عند حد، والمؤكد أن الاستخدام الاعلامي المرئي لهذه الفئة من البشر سيستمر على النهج ذاته ولن يؤتي ثماره سوى بظهور أدب مكتوب بموازاته تكون مهمته أن يذهب الى ما هو أبعد من السطح والحديث المكرر، فوحدها الكلمة المكتوبة قادرة على سبر الاغوار وكشف ما تغمض عنه كاميرات التلفزيون الاعين وتصم الآذان خجلاً أو نفاقاً أو اذعاناً للخطوط الحمراء. في الوقت الراهن يبدو ذلك كطيف حلم فالرقابة على 'المكتوب' ما تزال أشد قسوة واحكاماً من الرقابة على 'المرئي'. أما حلقة 'قريب جداً' فقد كانت دون التوقعات هذه المرة رغم كل ما توافرت عليه من جرأة وشجاعة وشفافية ناهيك عن موضوعية وذكاء في طرح السؤال وتوجيه هادف للنقاش غير مستغرب من 'جوزيف عيساوي'. الكتاب نفسه 'رندة الترانس' من المرجح أن يكون أعمق وأشد قرباً للحقيقة مما عرضته الحلقة. انها حالة نادرة لم نشهدها منذ زمن طويل، حيث الكفة ترجح لصالح 'المكتوب' دون 'المرئي' الذي لا يرضي نهم وفضول المشاهد التواق لحل لغز هؤلاء القوم من خلال الاطلاع على أدق تفاصيل قصصهم. ترجمة من الجزائرية من بين الاشياء الكثيرة التي تلفت الانتباه في حديث 'رندة' هو اتقانها للهجة اللبنانية الى حد لا يصدق من شخص لم يمض عليه وقتاً طويلاً في لبنان وقد حط الرحال من بلاد تلهج بعربية بعيدة عن عربية المشرق. ليست 'رندة' النموذج الوحيد بل ان هناك الكثير من الوجوه الاعلامية المقيمة أو الطارئة على شاشات التلفزة برهنت هي الاخرى على حذاقة عرب المغرب في تعلم اللهجات المشرقية. في المقابل ترى أهل المشرق العربي عاجزين عن التقاط بضع كلمات من لهجات اخوانهم المغاربيين. الضمير يحتم علينا الاعتراف هنا بأن الخطأ خطأنا نحن في المشرق اذ لا نكاد نخطو خطوة واحدة مقابل عشرات الخطوات التي يتقدم بها نصفنا المغاربي في سبيل جسر المسافات بين الالسن، الا اذا استثنينا محاولات أخيرة للدراما السورية في هذا الخصوص، فقد عرضت بعض شاشات التلفزة مؤخراً لمسلسلات سورية - جزائرية وكم كان باعثاً على السرور أن تتجاور اللهجة السورية مع الجزائرية رغم أن التجانس بينهما كان مفقوداً تقريباً، فبينما أمكن للأذن المشارقية أن تستوعب أجزاء الحوار بالسورية بقيت عاجزة عن تفسير طلاسم ما وصلها من الكلمات المتداخلة السريعة التي قيلت بالجزائرية! ستبقى جهود السوريين منقوصة اذن مهما حاولوا في هذه المرحلة المبتدئة الا اذا أرفقوا الحوارات الجزائرية بترجمات مشرقية أو فصحى تظهر على الشاشة فتفك الخط للمشاهدين الكسالى في المشرق!. كل الاحترام لشقنا المغاربي في تقربه اللغوي منا وعلنا نحذو حذوه وأملنا في التعاون الدرامي وربابنة السفينة السوريين كبير. نهاية مسلسل تركي لا تصل بنا الوقاحة والكسل حد طلب دبلجة المسلسلات المغاربية مثلاً كما يجري العمل حالياً مع المسلسلات التركية والهندية والامريكية. فتلك نقمة لا نرجو لها أن تعم علينا. أقول ذلك بعد أن انقطع نفسي ونفس الكثيرين في العالم العربي من ملاحقة احد المسلسلات التركية على شاشاتنا العربية ومنها ال'ام بي سي'. المسلسل الذي حمل اسم 'عالية' وقيل انه حاز نجاحاً واقبالاً منقطع النظير يذكر بنجاح باكورة مسلسلات الدبلجة التركية 'نور' قد وصل الى نهايته أخيراً بعد أن جاوزت حلقاته المئة وأثبتت بذلك أن الاتراك لهم نفس طويل في الدراما ينافس النفس الأمريكي المعروف عنه الحلقات المئوية والألفية أو النفس البريطاني الذي يواكب أجيالاً تموت وأخرى تبصر النور وهو ما يزال حياً يرزق كل يوم بمولود جديد! سؤال يطرح نفسه مجدداً مع نهاية هذا المسلسل التركي: لماذا؟ لماذا كل هذا الرواج لمسلسل تتلخص حبكته في كلمتين: الكنة والحماة، وما أكثر هذه الحبكات في مسلسلاتنا العربية بل في واقعنا العربي؟ بماذا يزيد عنا الاتراك؟ أليست حبكاتنا أشد درامية من حبكاتهم؟!. عنوان بيتنا وفي أجواء الدبلجة أيضاً، نقلت احدى القنوات التي تتراءى للمشاهد العربي وكأنها مدبلجة لأسباب لا يتسع المقام لذكرها الآن ولكن نكتفي بذكر اسم القناة ألا وهي 'فرانس 24'، نقلت عن الرئيس محمود عباس الاسبوع الماضي تصريحات ضمنتها في تقرير خاص حول أنباء عن محادثات تجريها حماس هذه الايام مع جهات أمريكية. ما يسترعي الانتباه أن الفضائيات الاخرى لم تتلقف نبأ هذه المحادثات أو المفاوضات على النحو الواجب، وكذلك كان الحال مع تصريحات عباس التي أظنها كانت حصرا للقناة الفرنسية العربية. في هذه التصريحات المقتضبة علق الرئيس عباس على الامر مكرراً ما سبق وأن قاله في تصريحات سابقة: لحماس أن تتصل مع من تشاء وأن تجري مباحثاتها مع من تشاء (لم يفته أن ينوه الى أن حماس تتفاوض على ما هو أقل من حدود ال 67 أي دولة الحدود المؤقتة)، ولكن... استطرد الرئيس عباس قائلاً: من حيث المبدأ 'عيب'..'عيب' لأن الشعب له عنوان واحد: منظمة التحرير الفلسطينية! سيدي الرئيس (واسمح لي أن أناديك بها بطريقة مغايرة لما فعلت الزميلة ملاك جعفر في حوارها الحميمي معك قبل شهور مضت) هناك أغنية رائعة للجميل 'علي الحجار' يقول فيها: 'عنوان بيتنا زي ما كان، بس انت انسيت العنوان، ابعت واسأل، وبلاش تتقل، لحسن ناخذ ع النسيان'. ولقد علمت من مصادر موثوقة أن الفلسطينيين في غزة كلما ضاق بهم الحال ذهبوا الى مقر الرئاسة المهجور على شاطئ البحر وأخذوا يصدحون بهذه الأغنية وقد قام بعضهم باهدائها لك عبر برنامج 'ما يطلبه المستمعون'، فهل علمت أنت بذلك أم لا؟...'العنوان ما تغيرشي واللي تغير قلبك انت...'!