استرجع المخرج التونسي محمود بن محمود في فيلم الأستاذ الذي عرض أول أمس بقاعة المغرب بوهران تاريخ النضال اليساري في تونس، من حقوقيين ومثقفين ومناضلين، بطريقة ذكية وكشف عن إصرار التونسيين في كل مرة للتصدي للحكومة الفاشية آنذاك التي تريد أن تركع المستضعفين، متجاهلة مطالبهم كعمال مناجم الفوسفات بالمتلوي وغيرهم. هذا الأسلوب الروائي الكلاسيكي في الكثير من ملامحه جعل القصة أكثر ممتعة وتشويقا، لأنه قدم وثيقة تاريخية عما كان يحدث في تونس منذ الحكم البورقيبي إلى أواخر الحكم الديكتاتوري الثاني مما ينبههم إلى خطورة ما يمكن أن يحدث للحريات مستقبلا في تونس ما بعد الثورة إن لم ينتبه التونسيون ويعتبروا من التاريخ. عرض "الأستاذ" على مدى 120 دقيقة، وهو من بطولة أحمد الحفيان ولطفي الدزيري، صحبة الممثل القدير أحمد السنوسي ولبنى مليكة، ويروي حكاية أستاذ القانون بالجامعة التونسية "خليل الخلصاوي" الذي وقع اختياره من الحزب الحاكم لتمثيله في رابطة حقوق الإنسان المنبعثة حديثا. تتمثل مهمة الخلصاوي في الدفاع عن المواقف الرسمية للحزب داخل الرابطة في فترة تتسم بالتوتر بين الحكومة والنقابات. ويبقى خليل مدافعا شرسا عن النظام حتى وصله يوما خبر اعتقال حبيبته هدى، وهي إحدى طالباته. وكانت الطالبة المعارضة بصحبة صحفيين إيطاليين يقومان بتحقيق عن إضرابات العمال بمناجم الفوسفات بالجنوب التونسي وفي رحلة البحث عن حبيبته قبل وصول خبر الاعتقال وبعده يتكشف الأستاذ على فساد النظام البورقيبي وواقع حقوق الإنسان في تونس. فيلم "الأستاذ" لمحمود بن محمود من الأفلام التونسية القليلة التي طرحت أسئلة سياسية مباشرة، إذ يرصد المحاولات المتكررة من السلطة التونسية للسيطرة على رابطة حقوق الإنسان باقتحامها من الداخل من خلال مجموعة من الكوادر الحزبية ومحاولة زعزعتها وتعطيل حركتها ومراقبة نشاطها. ورغم أن أحداث الفيلم تأتي في فترة النظام البورقيبي في السبعينيات وأساليبه القمعية، فإن نظام بن علي، ورغم محاولاته المتكررة لتشويه الفترة البورقيبية في أكثر من مناسبة لم ير في الفيلم إلا محاولة إسقاط فنية ودهاء مخرج محنك ينتقد النظام بن علي بالحديث عن النظام البورقيبي عبر العودة لتاريخ رابطة حقوق الإنسان وما تعرض له مناضلوها من اضطهاد ونفي وإبعاد وتعنيف. وقد تزامن تصوير الفيلم مع أزمة كبرى كانت تعيشها رابطة حقوق الإنسان في تونس ومحاولات كبيرة من السلطة آنذاك لتركيعها مما أدخلها في صراعات داخلية باءت كل محاولات التوفيق بين شقيها بالفشل كل مرة. الفيلم يهدف إلى خلق وعي لدى الشعب وتنبيههم إلى واقع رابطة حقوق الإنسان والحريات في تونس قد يتجاوز كل الاجتماعات السياسية السرية أو المقالات التي تنشر هنا وهناك حول حرية التعبير في تونس التي عمدت الدولة إلى تعطيلها عن كشف الحقيقة. هذا الفيلم هو قصة حب سياسي ووجه من وجوهها، حب رجل ثقافة وعلم "أستاذ جامعي" للسلطة وسعيه في البداية للوصول إلى مناصب كبرى من خلال دوره مخبرا وجاسوسا في صلب رابطة حقوق الإنسان من ناحية وقصة حب حقيقية تنشأ بين هذا الانتهازي وإحدى طالباته التي تدخل السجن بسبب مواقفها السياسية المناهضة للسلطة وبسبب نضالها من أجل حقوق الإنسان. تلك الحادثة تغير نظرة رجل السياسة لتكشف له عن حقيقة بشاعة النظام الذي ينتمي إليها فينسلخ عنه ويصبح أحد أشرس المعارضين له مما يدفع النظام إلى إبعاده ووضعه تحت الإقامة الجبرية في الجنوب التونسي. واعتبر محمود بن محمود فيلم الأستاذ المندرج في مسابقة الأفلام الطويلة الخاصة بمهرجان وهران للفيلم العربي رسالة للشعب التونسي للنظر في مستقبل البلاد الذي مازالت تطمع فيه بقايا النظام السابق.