رغم قلة الحاضرين في قاعة السعادة الوهرانية حد الألم، إلا أن المخرج التونسي الكبير الفاضل الجزيري جمع بين أعلام تونس التي أضاءت قبل نحو قرن من الزمن الطريق إلى الحياة الجديدة في تونس، الشيخ الطاهر الحداد، علي الدوعاجي، أبو القاسم الشابي كرموز ثقافية ناضلت من أجل مجتمع جديد في تونس، أما العلم الآخر والأكثر حضورا فهو الذي يشكل الاستثناء، فهو الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي اختلف عن من سبق ذكرهم في تصور تونسالجديدة ولكن على مستوى آخر هو بناء الدولة الحديثة· رغم حساسية الفترة التاريخية في تونس الثلاثينيات وخطورتها وهي تشهد التحول الأكثر صرامة في تاريخ تونس الحديث، عبر الانتقال من نظام البايات إلى تأسيس الدولة التونسية الحديثة على ما هي عليه اليوم، إلا أن المخرج التونسي الفاضل الجزيري كان نموذجا فريدا في مقاربة المرحلة بنفس فني ذكي كان غاية في اللطف إلى درجة المهادنة، ولذلك كانت المهمة صعبة كمن يدخل حلبة النار مصرّا على السلامة من أي لهيب، تبدى ذلك بجلاء في مراوغة المحظور السياسي باقتدار. ولذلك اعتمد الجزيري الإيحاء والرمزية جسرا منيعا يقيه شر التعرض للرقابات السطحية المختلفة ألوانها ومنابعها وطرائقها، اعتبارا بأن الموضوع وهو يطرق قلب السياسة في رموزها، فتح أيضا نافذة المقدس الديني متمثلا في أشهر كتاب تونسي تعاطى مع موضوع المرأة بحرية وجرأة وهو ''امرأتنا في الشريعة والمجتمع''، ويحيل بشكل طبيعي على كتاب قاسم أمين ''تحرير المرأة''. في هذا الكتاب كان الحداد متخففا من سلطة النصوص كما يفهمها الأسلاف، مستعينا بعقل نافذ في ما يمليه المجتمع من تغيرات تفرض مراجعة سلطة السائد غير مرتهن بالسلطات الحاكمة للتفكير والحياة معا حد الاستثناء، ولقد قال فيه عميد الأدب العربي الأديب طه حسين بعد أن فرغ من قراءة كتابه الأشهر ''لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنين''، وتشكل حكاية الحداد وكتابه مع مختلف السلطات السياسية والدينية قطب الرحى في فيلم ''ثلاثون'' الذي أراد الجزيري من خلال التركيز على هذه الزاوية التأكيد أن التطور والتحديث مرتبط بالدرجة الأولى بعالم الأفكار سيما في المجتمعات الإسلامية التي غالبا ما ترفض تجديد الخطاب الديني، لتسقط في متاهات الرقابة والتكفير والتفجير، ومن ثمة إلى تأسيس مشهدية قاسية من العنف. هذه المشهدية الدرامية هي فصل مهم من حياة الطاهر الحداد سواء على حراكه الفكري التقدمي الجريء، أو في تعاطيه السياسة ميدانيا بتأسيس أول نقابة للعمال التونسيين، ويكاد يشابهه مع مراعاة الاختلاف في الثقافة وفي الطرح، الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي رفض هو الآخر الارتهان إلى التخلف في تونس، ليكون رأسا مهما في الانقلاب على الوضع الثلاثيني في الخضراء بحثا عن تونسالجديدة، وفي جو ممتع على مستوى التقنية السينمائية من حيث التكثيف في تقديم مشاهد الفيلم التي كانت متقنة من حيث لغتها التي ابتعدت كثيرا عن الخطابية المستفزة أو البسيطة. الفيلم وهو يرفع كل الحب للشاعر التونسي الأشهر أبو القاسم الشابي مصورا تعلق الدوعاجي والحداد بالفتى الشاعر المقبل على الحياة بجنون المحب العاشق كما صوره الجزيري، رغم حالات الضعف التي تصرعه من حين لآخر ساقطا في دائرة اليأس من التغيير، لِمَ لا وهو الشاب الشاعر الفاتح للخيال المتوثب كل الأبواب مع الإشارة إلى أنه لم يظهر في الفيلم كمناضل شرس، بل كان نموذجا للشاعر العاشق للحياة في قصة حب خائبة مع إحدى الأجنبيات، وهذا يحيل في هذا الصدد على كتاب أبي القاسم الشابي (الخيال الشّعريّ عند العرب) الّذي أعُتُبر تعدّيا على أعلام العربيّة وقدسيتها. ''ثلاثون'' إذا رافع في النهاية لقيمة الحب كمحرك أساس أو كعقل نادر يدير الحياة نحو الحياة وكانوا ''الثلاثي: الحداد، الدوعاجي، الشابي'' في النهاية جميعا يناضلون من أجل تونس جديدة وحداثية تحكمها المحبة كمعطى إنساني قادر على تشكيل راهن أفضل. فيلم ''ثلاثون'' للفاضل الجزيري هو إدانه لمرحلة كادت لولا جهود الكثيرين في مقدمتهم الحداد، الدوعاجي، الشابي وبورقيبة، كما أنه يستحضر الماضي لقراءة الراهن ومحاكمته استنادا لفلسفة التاريخ وبحثا عن آفاق جديدة للأفكار الطلائعية التي شكلت نهضة تونس الدولة، ولذلك قدم رسالة أساسية مفادها أنه لن يصلح أخطاء اليوم التي كانت شبيهة بأخطاء البارحة إلا الاحتكام إلى الأفكار التقديمية المؤسسة للإقلاع طالما أن الشعوب تواقة على الدوام للغد الأفضل، ''ثلاثون'' قال إن القمع لن ينتج إلا التخلف وأن تونس ستظل حداثية ما ظلت وفية لأفكار ماتت من أجلها أسماء تشكل الحصانة الأكبر للهوية التونسية لتحافظ على انتصار صنعته قبل نحو قرن من الزمن. جدير بالذكر أن الطاهر بن علي بن بلقاسم الحداد من مواليد سنة 1899 بتونس العاصمة، بدأ حياته كاتبا في جرائد ''الأمة'' و''مرشد الأمة'' و''إفريقيا'' كان أحد أبرز الأحرار الدستوريين، أرّخ لتلك الحركة في كتابه الأشهر ''العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية'' (1927) الذي صادرته سلطات الاستعمار ومنعت تداوله، لم ييأس الحداد، بل واصل النضال ورأى أن الإصلاح لا يقوم بغير الصلاح: صلاح الناس والأفكار، فكتب لإصلاح العائلة والمنزل وتحرير المرأة من نفسها ومن سلطان التقاليد الفاسدة، فقامت ضدّه الرجعية الفكرية، حيث جرّد من شهادته العلمية ومنع من حق الزواج وممارسة أبسط حقوق المواطنة وطالبوا بإخراجه من الملّة وأُخرج قسرا من قاعة الامتحانات ومنع من العمل بسبب كتاب وسمه ب ''امرأتنا في الشريعة والمجتمع'' سنة 1930 . توفي الحداد يوم 7 ديسمبر 1935 ولم يسر في جنازته سوى نقر قليل من إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء، وبقيت كلماته ترنّ في الآذان وصدى صوته يتردّد داخل الأنفس، إلى أن جاء الاستقلال وتحولت كلماته إلى قوانين ملزمة للأفراد والجماعات، وأقيمت له الذكريات وأطلق اسمه على الأنهج ودور الثقافة والمساحات العمومية.