بعد الجزائري محمد لخضر حامينة عام 1975، استعصى على المخرجين العرب انتزاع "السعفة الذهبية" من مهرجان كان. ومثلت رائعة حامينة "وقائع سنوات الجمر" الاستثناء العربي في المهرجان السينمائي الدولي الأشهر، حتى جاء التونسي الفرنسي عبد اللطيف كشيش لينتزع سعفة الدورة ال66 وينثر أسئلة كثيرة. من رحم ثورة المليون ونصف المليون شهيد، جاء فيلم "وقائع سنوات الجمر" شاهدا وموثقا لنضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي من أجل الاستقلال والحرية المضرجة بالدماء، وهو لم يكن مجرد فيلم يناهض للاستعمار ويعالج واحدة من أهم الثورات العالمية، بل عدّ من أبرز كلاسيكيات السينما العالمية، ومن أضخم الأفلام التاريخية التي نفذت خارج هوليوود بمفردات سينمائية متينة ومشهدية مميزة. ورغم أن الانتقادات طالت حامينة وفيلمه باعتبار أن الخط الدرامي كان يتعرض للانقسامات الحاصلة في صفوف الثورة وينقد بعض المسارات، فإن الفيلم بلا شك مثّل واحدا من أهم الأفلام التي تؤرخ للمقاومة الجزائرية، ويعتبر الكثيرون فوزه بمهرجان كان نوعا من "الثأر الفني" من المستعمر الفرنسي في عقر داره. ويأتي التونسي الفرنسي كشيش بعد نحو أربعة عقود ليمنح اسما عربيا للسعفة الذهبية الثانية في تاريخ المهرجان بفيلمه "حياة أديل" الذي أنتج وصور في فرنسا وبشخصيات فرنسية. الفيلم بعيد كل البعد عن قصص النضال والمقاومة والحرب والتاريخ، بل يطرح "موضوع "الحرية" وفق رؤية المخرج والناقد الغربييْن، متعرضا لقضية "الشذوذ" المطروح بشدة في المجتمعات الغربية -وخاصة في فرنسا- من خلال علاقة "شاذة "بين فتاتين مراهقتين. وقال مدير مهرجان كان تيري فيرمو "إن الفيلم جاء في الوقت المناسب حيث نظم مئات الآلاف من المتظاهرين مسيرة في باريس اليوم الأحد -تاريخ منح الجائزة- احتجاجا على تقنين فرنسا لزواج المثليين مؤخرا"، وهو ما يطرح دور اللحظة الاجتماعية والسياسية الراهنة بفرنسا في منح الجائزة لكشيش وبطلتيه أيضا، ودور الصحافة الفرنسية التي كانت متحمسة للفيلم، في إقناع رئيس لجنة التحكيم ستيفن سبيلبرغ "المحافظ" جدا سينمائيا، باختيار عمل سينمائي لا يتناسب مع خطه. إذا استثنينا الأصول التونسية لكشيش، لا صلة لفيلمه "حياة أديل" وموضوعه بالواقع العربي، ومضمونه من الموضوعات "المحرمة" والصادمة للمشاهد العربي، وإن كان كشيش خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب فوزه بالسعفة الذهبية، لم يغفل جذوره وأهدى جائزته إلى الثورة التونسية و"إلى الجيل الجديد من شباب العالم المتطلعين إلى الحرية والانعتاق". لكن ارتداد كشيش نحو أصوله العربية في لحظة التتويج لا يحجب أنه قدم عملا سينمائيا منبتّا عن تلك الثورات وصيغ بمقاييس غربية خالصة، فهو فيلم صادم على مستوى الموضوع والمشاهد وبرؤية سينمائية شديدة الجرأة والتحرر، حتى بالمقاييس الغربية. بين عصر حامينة وحقبة كشيش تغيرت رؤية العدسات كثيرا، وتخلخلت الكثير من الثوابت، وبين هذه الفترة وتلك كان الكثير من المخرجين العرب يستحقون "السعفة الذهبية"، لعل أبرزهم يوسف شاهين ورشيد بوشارب ومرزاق علواش وإيليا سليمان وغيرهم، لكن هذه الجائزة حادت عن إبداعاتهم ليعتبر الكثير من النقاد أنها لا تبتعد عن المحاباة وعن التوظيف السياسي. وفي مقابل غياب الجائزة الأرقى عن العدسة السينمائية العربية، كانت جائزة لجنة التحكيم الخاصة من نصيب اللبناني مارون بغدادي عام 1991 عن فيلمه "خارج الحياة"، والفلسطيني إيليا سليمان عام 2002 عن فيلمه "يد إلهية"، إضافة إلى يوسف شاهين الذي نال اليوبيل الذهبي عن مجمل أعماله عام 1997، وهي جائزة لا شك في قيمتها لكنها في المقابل ليست في مستوى السعفة الذهبية التي تجعل الفيلم الفائز وصاحبه ملء السمع والبصر.