عُرِفَت قناةُ الناسِ خلال العقد الفائت بتوجهها السلفي، والتي نجحت من خلاله في خلق جمهور متعاطف مع الفكرة السلفية ومتعاطٍ معها خارج إطار الأيديولوجية السلفية التقليدية المتعارف عليها من خلال تشكلاتهم الدعوية المختلفة، فيكفى أن تكون متماهيا مع السلفية والقبول بأفكارها وأطروحاتها بمجرد مشاهدتك للقناة وما تطرحه من قضايا لا أن تكون مؤطرا في جماعة سلفية ما أو تنخرط في مجال الدعوة بأدواته السلفية على الأرض، الذي كان جزءًا كبيرًا منه يتمتع بقدر من الحركة والمرونة خلال نظام مبارك. في الحقيقة كانت قناة الناس بوابة الظهور الإعلامي لكثير من شخصيات ورموز إسلامية عقدت صلة مباشرة بينها وبين جمهور عريض في الداخل المصري وخارجه أيضا، وبرزت أسماء دعوية وإعلامية منها على سبيل المثال لا الحصر الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وصفوت حجازي وخالد عبد الله، فضلًا عن محمد حسان ومحمد حسين يعقوب وأبي إسحاق الحويني وغيرهم كثير.
سلفنة المشهد المصري
حققت القناة شهرة تعدت إطارها المحلى وأسهَمت بقدر كبير في سلفنة المشهد المصري المجتمعي بشكل خاص، وخاطبت جمهور العوام من المسلمين وأثرت فيه أيما تأثر ولعبت دور البديل لشرائط الكاسيت التي انتشرت في تسعينيات القرن الماضي للشيخ كشك ورفاقه من الدعاة الوعظيين في ذلك الوقت، وكانت في بعض الأحيان متنفسًا لبعض الوجوه الإخوانية المتأثرة بالحالة السلفية، والتي أطلق عليها الباحث الراحل حسام تمام وصف تسلف الإخوان والذي كان يجسده داخل القناة الدكتور راغب السرجاني.
ولاشك أن القناة في ذلك الوقت وفي السنوات القليلة التي سبقت ثورة ال25 من يناير قد أربكت لحد كبير حسابات جماعة الإخوان المسلمين الدعوية نظرًا لنجاحها في سحب البساط الدعوي من الجماعة، وهو ما كان يهدف إليه نظام مبارك في ذلك الوقت وتعيه جماعة الإخوان جيدًا، خاصة وأنها كان لها دور وظيفي غير مباشر في تدجين الحالة الإسلامية وجعلها في وضع مستأنس على طول الخط مع السلطة والدولة، عبر التركيز على الرقائق والنسك والعبادات وعدم التطرق إلى مسائل سياسية مع وضع الخطر الشيعي على رأس أجندتها الإعلامية والأيديولوجية.
ثورة ال25 من يناير والميلاد الثاني
مع التحولات السياسية التي صاحبت ثورة ال25 من يناير وانعكاساتها على المحيط الديني والمجتمعي، وصلت قناة الناس إلى قمتها وكانت بمثابة أداة التجييش الأولى للقوى الإسلامية مجتمعة، خاصة السلفية الحزبية التي تكونت بعد الثورة وأخذت طريقها نحو العمل السياسي وعند محطة الانتخابات الرئاسية في 2012 كانت لسان حال الإسلاميين بشتى تياراتهم وتنويعاتهم الحزبية والجمعاتية، سواء أكانوا إخوانا مسلمين أم سلفيين ، وبالفعل تمت التعبئة من أجل إنجاح الرئيس المعزول محمد مرسي ووصوله للحكم ووقفت معه في محطات سياسية مختلفة إلى أن تم عزله في الثالث من يوليو 2013م، وفي هذه المرحلة انتقلت من المعالجة الدعوية وحسب في مضمونها الإعلامي ومن خلال برامجها المتنوعة إلى الانفتاح على المشهد السياسي والتعاطي معه والاحتكاك المباشر به، بل والتنظير له بشكل أو بآخر. انطوت صفحة قناة الناس مع غروب شمس الإسلام السياسي عقب الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي والدخول في مرحلة جديدة بدأت مع الفترة الانتقالية برئاسة الرئيس المؤقت عدلي منصور وانتهاءً بوصول المشير السيسي إلى سدة السلطة في يونيو 2014م.
خلال هذه المراحل السابقة نجحت قناة الناس في بسط نفوذها الإعلامي على الداخل والخارج والوصول إلى كل بيت مسلم في مصر وخارجها، وتكونت قواعد سلفية كثيرة مؤدلجة حينًا ومتعاطفة ومحبة أحيانًا كثيرة، وكانت القناة الإسلامية الأولى التي تجمع كل التيارات والرموز من أقصى الإسلام السياسي الحركي إلى الآخر الذي ينتمي لتيار السلفية العلمية القحة، إلا أنها وبعد تصاعد الاحتجاجات من قبل الإسلاميين على ممارسات القوى العلمانية المناوئة لهم إعلاميًا وسياسيًا خاصة بعد الحشد لمليونية 30 يونيو الشهيرة والاحتكام للميادين، وُضعت قناة الناس تحت أعين الاتهام وتم وصفها بقنوات الإرهاب من قبل السلطتين اللتين تشكلتا بعد ذلك.
قناة الناس الصوفية
قرابة العامين لم تفتح شاشة فضائية الناس، وعدت في طي النسيان ولم يبق منها أثرا بعد عين سوى ماضيها السلفي القريب، حتى جاء الإعلان منذ وقت قريب عن تحول مفاجئ لقناة الناس منتزعة عنها رداءها السلفي متشحة بآخر صوفي أزهري، بعد أن تم إحلال وإبدال الوجوه السلفية القديمة التي توارت عن الأنظار إلى أخرى أزهرية معروف عنها توجهها الصوفي، والغريب أن القناة ظلت بالاسم ذاته ولم يفكر القائمون الجدد على القناة أن يدفعوا باسم مغاير لمسماها السلفي القديم . يشرف الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية الأسبق على قناة الناس بثوبها الأزهري الجديد وتضم كوكبة من أهم الرموز الأزهرية المصرية المعروف عنها انتماؤها الصوفي مسلكًا ومشربًا، على رأسهم أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق ومحمد مهنا مستشار شيخ الأزهر والشيخ أسامة الأزهري الوجه الأزهري كثير الحضور إعلاميًا والشيخان محمد يحيى الكتاني ومحمد عبد الباعث الكتاني، وجميعهم ينتمون إلى البيت الصوفي المصري العريق، ومن شاشة تأخذك إلى الجنة في الحالة السلفية القديمة إلى قناة ل صحيح الدين والإيمان انطلاقًا من الرؤية الأزهرية الصوفية المستحدثة. في الحقيقة وللمرة الأولى منذ عقود يتم انتقاء خيار الأزاهرة والصوفية في شاشة واحدة في وقت يشهد تراجعًا كبيرًا لدور المؤسسة الدينية الرسمية وارتدادًا سلوكيًا كبيرًا في ممارسات الطرق الصوفية في مصر، ما يعني أنه تم الإعداد جيدًا وتمت الاختيارات بعناية شديدة ووفق مرجعية عالية لمواجهة التحديات القائمة والمستقبلية، فضلًا عن الرغبة في شغل الفراغ الذي تركه الإسلاميون بعد تغييبهم القسري من المشهدين السياسي والمجتمعي بالإضافة إلى الديني بشكل خاص . بيد أن التحدي الأكبر الذي تواجهه القناة الجديدة بثيابها الأزهرية الصوفية وهي التي دفعت بنفسها نحوه، هو المقارنة الدائمة بين الشكل الجديد القائم بنسختها تلك وبين الأخرى السلفية القديمة، ولو أن القناة لم تتمسك بهذا الاسم القديم لكانت تسير الأمور في نصابها الطبيعي شأنها في ذلك شأن أي قناة دينية أخرى، ولكانت خرجت عن إطار المقارنة تلك خاصة بين رموز السلفيين وأنصارهم من الإسلاميين الآخرين الذين غيبتهم الأحداث السياسية عن المشهد برمته، وبين الوجوه الصوفية التي غالبيتها لا يعرف عنها عوام الشارع المصري شيئًا، وهي بمثابة تحدٍ كبير تواجهه إدارة القناة وداعموها خاصة في ظل مرحلة سياسية شائكة. ويذهب فريق من المحللين في الشأن الديني أن ثمة تحديات أخرى تواجه القناة الصوفية الوليدة، على رأسها النظر إليها من قبل البعض على كونها ستصبح بشكل طوعي بوقًا دينيًا للسلطة الجديدة يراد من خلالها لعب الدور الذي لعبته فترة الرئيس السابق مبارك، ما يجعلها محاولة استنساخ جديدة، إلا أن السياق الجديد والمغاير لا يحتمل مثل هذا التكرار ومعاودة الاستنساخ، وهو حاجز لا يمكن القفز عليه، من شأنه أن يمثل عائقًا مستقبلاَ في حجم الصلة التي يجب أن تكون عليها بين المشاهد والقناة، لذلك فهى تحتاج إلى ضرورة بث الطمأنينة والمصداقية من قبل القائمين على القناة حتى يستوعبها المشاهد الذي بات لديه من الوعي الكبير والنضج الذي يدفعه إلى أن يميز بين اتجاه القناة وولائها للسلطة، فمجرد الشعور من قبل الجمهور المشاهد والمتابع للقناة بحلتها الصوفية الجديدة بأن هناك أجندة يجب تمريرها تتمحور حول مهاجمة الإسلام السياسي، وتحديدًا جماعة الإخوان المسلمين، من خلال وضع الإسلام السياسي مع الآخر الراديكالي في سلة واحدة، سيدفع ذلك كله إلى تعاظم الفجوة والهوة بين القناة والمشاهد ما يدفعه إلى العزوف عنها وهو ما يهدد نجاح تجربة قناة الناس في حلتها الصوفية الأزهرية الجديدة.
ثمة أمر آخر جدير بالانتباه، وهو هل تنجح القناة في شغل الفراغ الديني الذي تركته قوى الإسلام السياسي بالتوازى مع تراجع التأثير السلفي في المشهدين السياسي والمجتمعي من خلال نجاح كل من الشيخ أحمد عمر هاشم والأزهري والكتاني في أن يكونوا بدلاء لكل من الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وراغب السرجاني وصفوت حجازي؟، وهل يسهم ظهور الباحث بمكتبة الإسكندرية خالد عزب وبرنامجه الفكري في نسيان تجربة خالد عبد الله ومطارحاته الفكرية التي كانت تدور غالبيتها حول المواجهة بين الإسلام والعلمانية؟، خاصة وأن المشهد المصري الآن يعانى من هجمات كبيرة في صلب العقيدة الإسلامية من خلال دعوات خلع الحجاب والهجوم على البخاري ومسلم وغيرها ما يجعل ظهور القناة في هذا الوقت ليس بالأمر اليسير. صفوة القول: إننا إزاء خطوة تأخرت كثيرًا تتمحور حول إعادة تموضع الأزهر ومؤسسته الفكرية ورموزه الثقات علمًا وفهمًا في المشهد الإعلامي المصري بشكل خاص، من شأنها أن تعيد للعباءة الأزهرية قيمتها ورونقها واحترامها بين الجمهور مرة أخرى، خاصة وأن الصفوة من العلماء الأزاهرة المنتقين بالقناة هم أبرزهم وأفضلهم في الساحة المصرية على الإطلاق. بيد أن هذا التموضع الجديد يلتف به حالات من الشك والريبة من قبل مكونات مجتمعية وسياسية أخرى في الداخل المصري، نظرًا لمجريات الأحداث خلال العامين الفائتين والتى لعب الأزهر فيهما دورًا لا يمكن القفز عليه، ما يعني أن اللحظة الراهنة تحتاج تفهمًا كبيرًا من قبل القائمين على القناة لطبيعة المشهد القائم في مصر والتي تستدعي خطابًا مغايرًا لرموز الأزهر إعلاميا عن سابقيهم، يعتمد على التقارب بين مكونات المجتمع المختلفة والمتباينة وأن يجمع ولا يفرق وإن لم يحدث ذلك فسيتم التعامل مع القناة الجديدة بكونها تلعب دورًا مؤتمرة به وفق إملاءات محددة تفرضها عليها السلطة الحالية في مصر، وهو ما يعني إعلان شهادة وفاة عاجلة لقناة الناس الصوفية الجديدة.