في محاولة للتصدي لقنوات التطرف الديني في عقر دارها على الفضائيات، وما تشيعه من فوضى وبلبلة، ضللت الناس بفتاوى مغلوطة، وصلت إلى حد تكفير الآخر، دشنت مؤسسة الأزهر قناة فضائية معبرة عن المؤسسة السنية العريقة، كما دشنت دار الإفتاء موقعا للتواصل بينها وبين جماهير المسلمين، وهما خطوتان يرى الكثير من علماء الدين أنهما أصبحتا من الضرورات، لكي يسترد الخطاب الديني الإسلامي قوى الاستنارة والعقلانية والتسامح التي شكلت وسطيته على مر العصور· ويرى مراقبون أن الأزهر يسعى من خلال هذه الخطوات إلى تعويض الوقت الذي فاته في عهد الرئيس السابق حسني مبارك الذي استمر ثلاثة عقود، إذ حافظ خلالها على قربه من الأنظمة الحاكمة في مصر، في حين اتجهت التيارات الإسلامية آنذاك لوسائل الإعلام الجديدة وكونت شبكة علاقات على مستوى القاعدة العريضة من الجماهير لتنشر آراءها التي تميل للتشدد· مؤكدين أن قناة الأزهر وموقع دار الإفتاء سيكون هدفهما التصدي للقنوات المتشددة والمتطرفة· وتزامن إعلان المجلس الأعلى للأزهر برئاسة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر موافقته على إنشاء قناة فضائية تتحدث باسمه لبيان منهج الاعتدال في الإسلام، مع مطالب مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في اجتماعه الأخير، بتحديد سقف وميثاق شرف يحكم القنوات الفضائية الدينية، لعدم المساس بالشرائع والأديان· وكان المجمع قد حرر مذكرة إلى وزير الإعلام اللواء أحمد أنيس، اتهم فيها إحدى القنوات الدينية بالإساءة للإسلام، وسبِّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والتهكم على شرائع الإسلام· يتواكب هذا التوجه الجدي للأزهر مع احتضانه لثورة 25 يناير التي تفجرت من قلب ميدان التحرير بالعاصمة المصرية القاهرة، ووجد في عباءتها مناخا ملائما ليستعيد دوره الديني المستنير، ويدخل طرفا فاعلا في معادلة الحياة الجديدة بكل أبعادها، خاصة بعدما حصل الإسلاميون على أغلبية مريحة في مقاعد البرلمان، ومخاوف كثيرة في المجتمع، من أن ينتقل التطرف الديني إلى مؤسسة البرلمان التي تمثل السلطة التشريعية في البلاد· وكان العديد من علماء الأزهر اقترحوا إنشاء قناة تحمل منهج وفكر الأزهر وتخضع لإشراف علمائه، غير أن تلك الفكرة لم تلق القبول الكامل خلال 10 سنوات تولى فيها مشيخة الأزهر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي· لكن الدكتور الطيب طالب منذ عامين بإنشاء القناة على أن يعهد بها إلى علماء الأزهر الحقيقيين الذين لا يبتغون الشهرة والمال ليكونوا أمناء على علم إصدار الفتاوى وطرح القضايا الإسلامية، والتصدي لفوضى الفتاوى خاصة في الفضائيات التي تسيء إلى الإسلام وتحدث بلبلة في المجتمع· ومن وقتها تم تشكيل لجنة للدراسة حتى الآن، إلى أن قاربت اللجنة من انتهاء عملها وإعلان الأزهر عن اقتراب موعد تدشين القناة·· وسبق أن رفض الأزهر قناة تسمى (أزهري) انطلق بثها منذ عامين· ومن جانبه، قال الدكتور محمد مهنا عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر، إن (قناة الأزهر جاءت في وقتها، وإن كانت قد تأخرت كثيرا، لكن هذا هو الوقت المناسب)· ولم يرفض مهنا وجود قنوات دينية أخرى غير الأزهر، بقوله: (أتمنى أن تكثر القنوات الفضائية غير المتشددة، بشرط أن يكون منهجها يتسم بالوسطية التي هي صحيح الدين)· وهو ما أكد عليه الدكتور إبراهيم نجم المستشار الإعلامي لمفتي مصر، قائلا: إن (بوابة دار الإفتاء تهدف لإحياء روح التجديد والاجتهاد المستمدة من الأصل الإسلامي ومقاصد الشريعة)· وأنشئ الجامع الأزهر بالقاهرة العتيقة عام 361 هجرية·· عام 972 ميلادية، فكان جامعا ومدرسة، وكان لعلمائه هيبة ومكانة، وقد أنجب الأزهر العشرات من رموز الدعوة والتجديد والاجتهاد، وصاغ وجدان الأمة من فوق المنابر، لكن وقع الأزهر تحت سيطرة الدولة التي كانت تضغط على رجال الدين التابعين له للدفاع عن أنظمة الحكم·· وتخلف الأزهر عن الركب، حين أتيحت خيارات جديدة في مجال الاتصالات والفضائيات استغلها الإسلاميون الذين نجحوا في مخاطبة المصريين على انفراد داخل منازلهم، ليتحدوا التيار الإسلامي الوسطي· وقال الدكتور محمود إمبابي وكيل الأزهر الأسبق، عضو مجمع البحوث الإسلامية: (إن القناة ستعكس توحيد المرجعية للفتوى ونشر سماحة الإسلام، والتصدي للأفكار الهدامة، وبيان المنهج الدعوي الصحيح، وشرح وبيان العلوم الشرعية، والتواصل مع الدعاة المتميزين، والعمل على التقريب بين المذاهب)· وتابع الدكتور محمد مهنا: إن (اللجنة المشكلة الخاصة بإنهاء ترتيبات إطلاق القناة، تقوم بعملها وتجتمع بصفة دورية لإطلاق القناة الجديدة)، لافتا إلى أن الأزهر حافظ على مكانته لأكثر من ألف عام وتربع عالميا من الناحية العلمية بفضل المنهج الوسطي، الذي سوف تقوم عليه القناة· وطالب الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية، بأن (يُعهد بهذه القناة إلى العلماء الحقيقيين، وأن تكون هناك جهة واحدة للإفتاء الرسمي بالتعاون مع الأزهر ودار الإفتاء، وأن يكون مجمع البحوث الإسلامية هو الرقيب عليها)، مضيفا أن (أغلبية المسلمين في العالم ينتظرون قناة الأزهر وكثير منهم كان ينتظر حملة إعلامية تنويرية في الغرب، لتعريف الناس بالدين الحنيف في ظل الحملات المتزايدة المعادية للإسلام والمسلمين)، مؤكدا أن علماء الأزهر هم الوحيدون الذين يستطيعون وبقوة أن يركزوا على القضايا الفقهية المعاصرة دون تطرف أو غلو في الدين· وطالب الدكتور شعبان شمس عميد كلية الإعلام بجامعة 6 أكتوبر بمحافظة الجيزة، بضرورة اختيار فئات متميزة من المعدين والمخرجين والمذيعين على مستوى يليق بالأزهر، للعمل بالقناة، لأنه يجب أن يكون للأزهر دورا قويا وبارزا في (حرب الأفكار) المنتشرة على الفضائيات المختلفة، مشيرا إلى أن (هذه القناة أصبح وجودها ضرورة ملحة، وجاء في توقيت مناسب ومهم مع دخول الأزهر في شتى مجالات الحياة السياسية منها والدينية والثقافية)، موضحا أن (الأزهر يستطيع أن يدمج بين الدين والسياسة دون إنقاص منها)· ويقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق، عضو مجمع البحوث الإسلامية، إن الدكتور أحمد الطيب أدرك جيدا أن الوقت قد حان، ليبادر الأزهر كأرفع مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، لمواجهة الانفلات الشديد في مجال الإعلام الديني، ولهذا وافق على أن يرعى الأزهر فضائية تنطق باسمه وتوضح صورة الإسلام الحق السمح، بعيدا عن التهييج المبالغ فيه من البعض أو التشدد المبالغ فيه أيضا من البعض الآخر·