الحلقة 15 النفاق … خطأ يتحول إلى خطيئة إن مشكلة المنافقين الأساسية هي مشكلة داخلية ذاتية مع قلوبهم، لذلك فهم لا يبحثون لها عن حل، ولا يصرفون لها أدوية لمعالجة جذورها وبذورها التي يعرفون أسبابها وبواعثها، لأن شفاء قلوبهم يورثهم الإستقامة على التوحيد فتضيع باستقامتهم على الدين دنياهم، وتبعثر مصالحهم، وتفوت عليهم حظوظا كثيرة هي كل رصيد حياتهم، وهي مبلغهم من العلم والعمل، فكيف يطلبون شفاءا من دائن ارتدوه لأنفسهم طريقا لحب الدنيا وكراهية الموت، هم من أجل تأمين هذا الحب نافقوا؟ ولأن الله يعلم حجم ما في صدورهم من داء وضخامة ما في قلوبهم من هوى يمنع دخول حقيقة عقيدة التوحيد فيها ويصد الهداية عن النفاذ إلى المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله، وبفسادها يفسد الجسد كله، فهم الذين اختاروا بإراداتهم هذا الهوان الذي هو جنتهم في الدنيا، وما داموا قد اختاروا أن يعيشوا بقلوب مريضة فقد أكمل الله لهم ما كانوا قد بدأوه به "فزادهم الله مرضا" لأن أي مرض عضوي أو نفسي أو عقلي أو إيماني..لا يسعى صاحبه إلى التماس أسباب علاجه بإرادة ذاتية فيركن إليه حتى يُصبح معه على علاقة طبيعية يزداد مع الزمن استفحالا، وكذلك حال مرض النفاق، يبدأ صغيرا بالخوف على ذهاب السمعة وانكماش الرزق، ثم يمتد إلى هواجس الخوف من ثقل تكاليف الإيمان، ثم تتسع دوائره ليصبح توجسا من سلطة الآوامر والنواهي والرهبة على المصالح الدنيوية وتأمين العيش المريح بما يوفره التحلل من تبعات الإيمان من واسع حرية في أبواب الحلال والحرام، وفي المقابل يرى في الإيمان أمنا واطمئنانا وفي المؤمنين مثابة وآمانا، فيحب الظهور والسمعة برياء الناس، ثم يتوسع به نفاقه ليكتسب خصائص الشراهة والنهم فيطمع في التهام ما ليس له من خشاش الأرض وتمتد عينه إلى زينة الحياة الدنيا التي يرى أن من حقه أن يأخذ منهل مجانا ما دام ماسكا بطرفي الإيمان والكفر معًا، وعندئذ يصبح النفاق مصلحة مؤكدة ومفتاحا نافعا لولوج فضاءات الدنيا كلها فيصبح النفاق هوالأصل الذي يملي على المنافق مشاعره وعواطفه وسائر منازعه لتحقيق هدفين كبيرين: هدف ابتغاء "ريوع" الإيمان ومنافع الإسلام دون مكابدة مشقات العقيدة وتكاليف الدين وتبعات المنهج..فالمنافقون يريدون غنائم باردة بلا حرب ولا طعان، ويبحثون عن الضلال الوارفة للترويح فيها بلا ثمن، ويريدون أن يُمدحوا بما لم يفعلوا من المشاريع الوهمية التي يحبون أن يتحدث بها الناس عنهم، ثم يتسع هذا المرض. وهدف الحرص على الحقوق التي يمنحها مجرد الإنتساب لجماعة المؤمنين دون ولاء لمنهجهم ودون تحمل حقيقي للواجبات التي يفرضها حق الإنتساب وواجب الإنتماء وتبعات الولاء. لست أعرف خطأ يتحول إلى خطيئة كخطأ النفاق الذي يبدأ بنيّة تأمين المصالح الخاصة وينتهي بنصب الكمائن للدين نفسه والترصد له للوقيعة به لأنه صار في ظن المنافقين- مهددا لمصالحهم، وهو وهم لا يمكن تصنيفه إلاّ في خانة الأمراض المزمنة التي تنتهي بأصحابها إلى الهلاك المؤكد في الدنيا، ويكون طريقها موصل إلى العذاب الأليم يوم القيامة بجريمة محاولة "مخادعة الله" والذين آمنوا وبما حملته قلوبهم من أضغان لأهل الإيمان فعاشوا بالنفاق وماتوا عليه " وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" يكذبون على الله بزعمهم أنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر، ويكذبون على الناس بادعائهم الانتماء إلى معسكر الإيمان، ويكذبون على أنفسهم، وهم يعلمون أنهم كاذبون، لأنهم اختاروا إيمانا متناقضا بين عقيدة الجنان وما ينطق به اللسان، فهو إيمان خاص بزمرة المنافقين، بل هو دين مزجي من إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، ظاهره حسن وباطنه وثن وهم يعلمون أنه لا يوجد إلاّ رب واحد جعل دينه واحدا يسكن قلبا مؤمنا يعمره كله أو يخرج منه جملة إذا زاحمه الشرك وأساء النفاق التعامل معه، فالعقيدة إذا انعقدت في القلب لا تقبل إعادة الطرح والنقاش لأنها "عقدة" لا تقبل الحل إذا أقرها الجنان ونطق بها اللسان وأذعنت لهيبتها الأركان، فالتوحيد لا يتعدد ولكن المنافقين يعددونه بما في القلب من مصلحة وبما في اللسان من لحن قول، فاللسان كاذب والقلب منافق. فالمنافق كاذب بلسانه على قلبه، لأنه أظهر الإيمان وأبطل الكفر، وهذه قمة تنازع الملاكات. وهو كاذب أيضا بسلوكاته على عقيدته، لأنه يعتقد في قرارة نفسه- عقيدة الكافرين ولكنه يتظاهر بممارسة أفعال المؤمنين، فلا يأتي أنفعها إلاّ كسلاً، فهو مع الكافرين كاذب، ومع المؤمنين كاذب، ولنفسه خادع، وعند الله مخادع رعديد. إن ما نحن بصدد فقهه من أقوال المنافقين وأفعالهم مرتبط ارتباطا شرطيا بمنهج الهداية وبحقيقة التوحيد في جوهره الكلي الذي على أساسه يتم تصنيف الناس إلى مؤمن بالإيمان وكافر بالإيمان ومنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لذلك نحتاج إلى استعراض الصفات الكبرى التي وسم الله بها هذا الصنف من الناس في علاقاتهم بالمنهج الإيماني، الذي تولى القرآن نفسه إبراز جميع الصفات وعرض كل التصرفات التي يعرفها الناس، والتي تمور في دخيلة نفسيات المنافقين، في سياقات كثيرة هي من صميم مفردات المنهج الإيماني وتكاليفه، فمهما حاولنا فرز الناس وتصنيفهم على قاعدة التوحيد فسوف لن نجد صنفا رابعا يخرج عن هذه الأصناف الثلاثة، حتى لو حاولت بعض الدراسات إضافة صنف رابع جعلوا فيصلة الفرق فيه بين نفاق العمل ونفاق العقيدة، فسوف يظل الناس قديما وحديثا وإلى قيام الساعة- أمام منهج الهداية ثلاثة أقسام كبرى مؤمنين وكافرين ومنافقين، والبقية تعيش على الحواشي ممن يسميهم القرآن الكريم "قوما تبّعا". لا تنطلي حيل المنافقين على من يعايشهم من الناس، فظاهر أفعالهم يدل على انحطاط مريع في تركيبتهم النفسية، وتؤكد حركتهم في الحياة سوء نياتهم وما يضمرونه حتى لمن يعيشون معه في تشكيلة واحدة، لأن برنامج حياتهم قائم على إفساد ما هو صالح " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) " البقرة: 11 /12، فشعورهم متبلد، أوهم في حياتهم كلها يعيشون بلا مشاعر ولا عواطف ولا أحاسيس ولا وخز ضمير، فقد كانوا يعتقدون أنهم يخادعون الله بدينه فخدعوا أنفسهم ولم يسعروا بفداحة هذا الصنيع الهابط المنحط، ثم تجاوزت حركتهم في الحياة دوائر فسادهم الذاتي إلى فضاءات منداحة ذات أثار متعدية تجعل للفساد أذرعا أُخطبوطية تمس كل ماهو صالح فتصبغه بصبغة الفساد على نحو يجعل ثمارات الفساد والإفساد ظاهرة للعيان تشد انتباه الناس إليها، فيقوم فيهم من يحذرهم من عواقب ما يصنعون ومن ينبههم إلى تبعات ما تجترحه أيديهم، فيكون رد فعلهم مغرقا في الفساد، متهما المصلحين ودعاة إيقاف تمدد الفساد بأنهم واهمون في نظرتهم لما حولهم زاعمين أن ما يراه الناس فسادا هو عين الصلاح والإصلاح !! لذلك تولى الله تصحيح هذه النظرة بتقويم المعوج في عقائدهم وتسديد سوء أقوالهم وتأكيد بطلان ما يدعون، وبيان أن مشاعرهم مخدرة لأنهم لا يعلمون أنهم فاسدون ولا يشعرون بجسامة ما يقومون به من هدم لما بناه الحق ومن تشويه لما حسنه جمال الكون، فلم يردعهم دينهم الذي يزعمون ولم يلدغهم الشعور بالإثم والإحساس بالألم الناجم عن جرم الفساد، بل زادوا فوق فسادهم كبّرا وتطاولا على الناصحين لهم بالكف عن التمادي في غيّهم، فرفعوا عقيرتهم بالقول "إنما نحن مصلحون" لكن المنهج لا يترك مفرداته لزعم الزاعمين فجاءت صعقة الإيفاقة بالتصويب المعزز بنداء الإنتباه "أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ"، وهي أداة تنبيه قارعة للأسماع وحاثة على فتح العقل والقلب لما بعدها من خطاب ليكون الإدراك مستوعبا لجلال التصويب وجمال التصوير. فماهو مفهوم الإصلاح في قواميس المنافقين؟ وهل الصلاح والإصلاح هما ما يتعارف عليه الذوق العام أم هما معنيان فلسفيان خاضعان لهوى الذين لا يعلمون؟ وإذا لم يضبط هذا الدين ضوابط المصلحة وحدود المفسدة، فماهي المعايير التي يتحاكم إليها الناس في بيان ماهو صالح وماهو فاسد وما غلبت عليه المصلحة أو ترجحت به المفسدة ؟؟ لقد زعم فرعون أن دعوة موسى (ع) إنما ظهرت في ملكه لتستهدف أمرين خطيرين هما من مفردات الفساد الراجح الذي جاء به موسى ليهدد عرش فرعون. الفساد الأول، يتمثل في السعي إلى تبديل "دين" الفرعونية بتقويض سلطة المعابد التي كانت "تشرعن" للناس طغيان الفرعونية وتتآمر مع السحرة لإطالة عمرها وتوسيع رقعتها. والفساد الثاني يتمثل في حشد جموع بني إسرائيل ليصنع منهم قوة احتجاج تمكنه من أن "يظهر في الأرض الفساد"!! التي كانت بزعمه صالحة قبل أن يبعث الله موسى (ع)، فلما جاء موسى (ع) بالتوراة اعتقد فرعون أنه بعث "ليفسد" في الأرض ويعبث بمنهج السياسة الرشيدة والحكم العادل الذي سام به فرعون بني إسرائيل سوء العذاب لما ساسهم بتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم وأعلن أنه فوقهم قاهر. فهل هذه هي مشاريع الإصلاح التي كان يقصدها المنافقون بقولهم لأهل الإيمان "إنما نحن مصلحون"؟؟ أم أن الفساد في عرف المفسدين هو كل مشروع يستهدف إصلاح المعوج، وتقويم المائل، وهداية الضال، وإقامة العدل في الأرض، وتثمين موارد الأرض في عالم الجمادات والنباتات والحيوانات من أجل كرامة الإنسان وحريته وأمنه الاقتصادي والاجتماعي. يتبع…..