ذات يوم قال الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل واصفا لبنان أنه عبارة عن بيت من زجاج يمكنك أن تشاهد فيه صراع القوى العربية الإقليمية والدولية بطريقة ناعمة دون استخدام خشونة السلاح، بعبارة أخرى بيروت تختصر ما يحدث في المنطقة العربية فإذا كانت الحياة هادئة في بيروت فالعالم العربي مستقر وسماء السياسة العربية صافية والخط الأخضر بين دمشق والرياض في أحسن حالاته، أما إذا كانت سماء بيروت ملبدة شديدة الغمام فإن المنطقة العربية حبلى بالأحداث الجسام وحبل الود مقطوع الوصل بين دمشق والرياض، بيروت التي قال عنها الراحل محمود درويش "بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام …فضة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام" حولها الصراع الطائفي والمذهبي من عاصمة للإبداع الفكري والتنوع الثقافي إلى عاصمة لنفايات القمامة السياسية ومزرعة لمجموعة من المرتزقة السياسيين وهواة الحروب والدمار، فتحول لبنان بفضلهم إلى مرتع لصراع المخابرات الدولية والإقليمية وغادرت بيروت موقعها من ملتقى الثقافات الشرقية والغربية ومدينة تختصر انفتاح العالم العربي على الحداثة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر إلى مدينة للتناحر الطائفي بين أبناء الوطن الواحد فأضحت بيروتا معبرة فعلا عن التشرذم داخل البيت العربي وتمزق الأنا العربية فكان لبنان مرآة لسياستنا الطائفية القبيحة وروائح أنفاقها الكريهة، لذلك اختار الشباب اللبناني شعار "طلعت ريحتكم" و"حلو عنا" كدليل على تذمر قطاع واسع من اللبنانيين من السياسة الحكومية الطائفية التي تحكم البلاد منذ زمن طويل وأغرقتها وورطتها في صراعات إقليمية ودولية، لبنان المعطل اليوم بدون رئيس للجمهورية وبحكومة هزيلة نتيجة تفاعلات الصراع الدولي والإقليمي في سورية موزع الولاءات بين إيران والسعودية وفرنسا طبقا لقانون الانتخابات الطائفي الذي يمنع عن المواطن اللبناني الانتخاب خارج طائفته، ونتيجة اتفاق الطائف الذي ألغى المواطنة لصالح الطائفة فصارت المحاصصة الطائفية والتوافقات الدولية والإقليمية هي عنوان الحكم في البلاد معبرة بذلك عن الاختراق الإقليمي والدولي للسيادة الوطنية مجسدة انتصار الطائفة على الوطن بتعثر البناء الوطني وإفلاس المشروع القومي العربي وفشل العلمانية العربية عندما تتم العلمنة في نصوص الدستور والقانون ويبقى المجتمع عرضة للابتزاز الطائفي والاستخدام الرخيص للدين في السياسة بتجسيد واضح لحالة الاستبداد الشرقي بالعائلة والقبيلة والطائفة، بيروت هي أيضا قصة الحرب الأهلية المروعة التي مازلت ماثلة للأذهان عندما يتحول الوطن لساحة للصراع الدولي والإقليمي وهي غدر الإخوة والأصدقاء من جيش لحد وسعد حداد إلى انتصار تموز 2006، وبيروت ميكيافلية السياسة وسرعة تغيير التحالفات وتبدل المعادلات الدولية والإقليمية وهي الحضور الشعبي الدائم للقضية الفلسطينية ومخيمات اللاجئين وغيابها الفعلي المستمر في أروقة السياسيين وبيروت أيضا ملتقى الأضداد الوطنية والعمالة، والمقاومة والثبات على الحق والدين والإلحاد ولبنان وطن بلون الماء وطعمه متعدد الانتماءات والولاءات لعل ميخائيل نعيمه كان صادقا حينما قال في وصف استقلال لبنان "يا رقعة شطرنج فتَّانة تلعب عليها الأقدارُ أقدارُك وأقدارُ الأرض كلِّها"، هل يمكن أن ينتج الحراك الشعبي الأخير إرادة قوية في التخلص من قيود الطائفة لصالح الوطن ليستعيد لبنان بريقه وحضوره الثقافي العربي…أم سيكون مقدمة أخرى للشرخ الوطني ومقدمة لأيلول جديد.. فأينما وليت وجهك كل شيء قابل للانفجار…. بيروت اليوم اختبار الزمن العربي المر بخيباته وتناقضاته وهزالنا في معالجة الملفات العربية…